الجمعة، 15 مايو 2009

التشريع الجنائي الإسلامي

التشريع الجنائي الإسلامي
مقدمة
يصم البعض الشريعة الإسلامية بعدم الصلاحية للتطبيق في العصر الحاضر وهم فريقان فريق جاهل بها وفريق جاهل بها وبالقانون، والقائلون بذلك لا يبنون رأيهم على دراسة علمية أو حجج منطقية، وإنما على قياس خاطئ ذلك أنهم تعلموا أن القوانين الوضعية المعاصرة إنما هي قائمة على نظريات فلسفية واعتبارات اجتماعية وإنسانية حديثة، و لا تمت بصلة إلى القوانين القديمة التي كانت تطبق حتى أواخر القرن ال18 وذلك حق في جانب القانون، ثم استنتجوا بما أن الشريعة كانت كذلك سائدة في العصور الوسطى، فهي إذن غير صالحة للتطبيق، أي قاسوا الشريعة على تلك القوانين القديمة، وهو قياس باطل إذ لا قياس بين مختلفين، أو كما يقال لا قياس مع الفارق فكيف بكل هذه الفوارق؟
أهم الفروق بين الشريعة الإسلامية والقوانين الوضعية:
1) القانون من صنع البشر أو الجماعة الإنسانية، بينما الشريعة فمن عند الله، وكلا منهما يتمثل فيه آثار صفات صانعه، فالقانون ناقص دائما وعرضة للتبديل والتعديل أو ما يسمى بالتطور.. خلافا للشريعة.
2) قواعد القانون عادة ما تكون متأخرة عن تلبية وسد حاجة الجماعة ومتطلباتهم، وقد تكون في مستوى الجماعة اليوم لكنها قطعا متخلفة عن متطلباتهم المستقبلية.. فهي قواعد لا تتغير بسرعة تطور المجتمع.. أما الشريعة فقواعدها وضعها الله لتنظيم شؤون الجماعة على الدوام، ويقتضي هذا التميز: (1) المرونة والعموم بحيث تتسع لحاجات الناس (2) السمو والارتفاع بحيث لا تتأخر في وقت عن مستوى الجماعة.
3) القانون من صنع الجماعة، وليست الجماعة من صنع القانون، ثم ظهرت بعض التوجهات تدعو لأن تستخدم القوانين في توجيه الشعوب بما تراه القيادة العليا في الدولة ترتب عليه نتائج كارثية كما في ألمانيا النازية وروسيا البلشفية. وأما الشريعة فهي من صنع الله، والجماعةُ مِنْ صُنْعِ الشريعة وهي ليست مهتمة بتنظيم شؤون الجماعة فقط بل توجيه هذه الجماعة نحو الأصلح في الدنيا والآخرة، بينما القوانين كان يغيب عنها أساسا هذا الدور.
المزايا الرئيسية للشريعة الإسلامية:
1) الكمال: فهي غنية بالمبادئ والنظريات وقواعد لسد حاجات الناس.
2) الدوام: فنصوصها لا تقبل التعديل والتغيير.
3) السمو: فقواعدها أسمى وأرفع دوما من مستوى الجماعة.
الأدلة على توافر هذه المزايا وشواهدها:
1) نظرية المساواة بين الناس: "إنا خلقناكم من ذكر وأنثى .. إن أكرمكم عند الله أتقاكم".
2) مساواة المرأة بالرجل فيما يتفقان فيه، وللرجال درجة وهي الرئاسة والقوامة، فيما لم تعرف القوانين الوضعية التسوية بينهما إلا في القرن 19 بل إن بعض الدول لا زال فيها منع لتصرف المرأة في أموالها دون إذن زوجها.
3) نظرية الحرية (تفكير، اعتقاد، رأي، قول) وكل ذلك بقيود.
4) نظرية الشورى.
5) تقييد سلطة الحاكم (حدود سلطته، مسؤولياته عن عدوانه واخطائه، حق الأمة في عزله).
6) حق الطلاق والتفريق سواء من طرف الرجل أو المرأة قبل الدخول أو بعده (لم تعرفه وتتوجه له القوانين إلا مؤخرا).
7) تعدد الزوجات (لم تعرفه القوانين بعد وإن كان ينادي به الكثير من المفكرين للتخلص من سلبيات ضده).
8) تحريم الخمر (منعته بعض الدول، وقيدت الدول الأخرى الحق فيه).
9) آية المداينة وقد تضمنت العديد من المبادئ التي لم يلتفت لها القانون بعد أو التفت لها متأخرا مثل: تطلب الكتابة لإثبات العقود/ التغاضي عنها في التجارة/ حق الملتزم والطرف الضعيف في إملاء العقد / تجريم الامتناع عن الشهادة/ تجريم الإضرار بالكاتب والشاهد وغير ذلك مما نصت عليه آية الدين.

المطلب الأول: ماهية الجريمة:
الجريمة لغة من الجرم وهو الكسب، ومنه قوله تعالى (ولا يجرمنكم شنآن قوم)
وفي الاصطلاح الشرعي: الجرائم هي محظورات شرعية زجر الله عنها بحد أو تعزير.. وتتمثل هذه المحظورات في إتيان فعل منهي عنه، أو ترك فعل مأمور به.
ووصفت المحظورات بأنها شريعة، إشارة إلى أنه يجب في الجريمة أن تحظرها الشريعة ووافقت القوانين الشريعة في ذلك، حيث عرفت الجرائم بأنها: إما عمل يحرمه القانون، وإما امتناع عن عمل يقضي به القانون.
علة التجريم والعقاب:
تتفق الشريعة والقانون في أن الغرض من تقرير الجرائم والعقوبات عليها هو حفظ مصلحة الجماعة وصيانة نظامها وضمان بقائها.. لكن تتميز الشريعة من وجهين:
1. عناية الشريعة بالأخلاق عناية فائقة فالدين يأمر بمحاسن الأخلاق.. بينما القانون لا يجرم شيئا إلا إذا ترتب عليه ضرر مباشر لفرد أو للأمن والنظام العام.
جاء سؤالان في الاختبار عن الزنا والخمر هذا جوابه: "فلا تعاقب القوانين الوضعية مثلاً على الزنا إلا إذا أكره أحد الطرفين الآخر، أو كان الزنا بغير رضاه رضاء تاماً، لأن الزنا في هاتين الحالتين يمس ضرره المباشر الأفراد كما يمس الأمن العام. اما الشريعة فتعاقب على الزنا في كل الأحوال والصور، لأنها تعتبر الزنا جريمة تمي الأخلاق، وإذا فسدت الأخلاق فقد فسدت الجماعة وأصابها الانحلال. وأكثر القوانين الوضعية لا تعاقب على شرب الخمر، ولا تعاقب على السكر لذاته، وإنما تعاقب السكران إذا وجد في الطريق العام في حالة سكر بيِّن، فالعقاب على وجوده في حالة سكر بيِّن في الطريق العام، لأن وجوده في هذه الحال يعرض الناس لأذاه واعتدائه، وليس العقاب على السكر لذاته باعتباره رذيلة، ولا على شرب الخمر باعتبار أن شربها مضر بالصحة، متلف للمال، مفسد للأخلاق. أما الشريعة فتعاقب على مجرد شرب الخمر ولو لم يسكر منها الشارب؛ لأنها تنظر إلى الجريمة من الوجهة الخلفية التي تتسع- كما نعلم- لشتى المناحي والاعتبارات، فإذا صينت الأخلاق فقد صيبت الصحة والأعراض والأموال والدماء وحفظ الأمن والنظام".
2. أن مصدر الشريعة من الله مما ترتب عليه (1) ثبات القواعد الشرعية واستمرارها ولو تغير الحكام. (2) كفالة احترامها من الحاكم والمحكوم لا سيما مع وجود العقوبة الأخروية بعكس القانون.
الجريمة والجناية:
الجناية لغة: اسم لما يجنيه المرء من شر وما يكتسبه، وفي الاصطلاح الفقهي: يعبر الفقهاء عن الجريمة بلفظ الجناية، فهي : اسم لفعل محرم شرعا، سواء وقع الفعل على نفس أو مال أو غير ذلك. لكن تعارف كثيرهم على إطلاق لفظ الجناية على الأفعال الواقعة على نفس الإنسان أو أطرافه ( القتل والجرح والضرب والإجهاض) بينما يطلق الآخرون لفظ الجناية على جرائم الحدود والقصاص.. أما القوانين فقد قصرت الجناية على الجرائم الجسيمة دون غيرها (الجنحة والمخالفة) فمن ثم تختلف الشريعة في أن الجناية فيها يمكن أن تطلق على الجريمة أيا كانت درجة الفعل من الجسامة.
الجرائم التأديبية: لم يفرق الفقهاء بينها وبين الجريمة الجنائية.. والعلة في ذلك: أنه إذا لم تكن الجريمة التي ارتكبها الموظف حدا أو قصاصا فهي من التعازير.. ومحاكمة الجاني ومعاقبته تمنع إعادة محاكمته ومعاقبته مرة أخرى.. ومن ثم فسبب عدم ذلك التفريق يرجع إلى طبيعة العقوبات في الشريعة من ناحية، وإلى تحقيق العدالة من ناحية أخرى.
والحال مختلف في القوانين ففيها العقوبات الجنائية تخالف العقوبات التأديبية، وأن معظم الجرائم التأديبية لا تدخل تحت حكم القوانين الجنائية، ومن ثم فقد اقتضى تغاير العقوبتين والفعلين أن يحاكم الجاني على الفعل مرتين إذا كان فعله يعتبر جريمة تأديبية، ولا يمنع توقيع إحدى العقوبتين من توقيع الأخرى، كما لا تحول براءته في إحدى المحاكمتين من السير في المحاكمة الثانية، ويعللون ذلك بأن الدعوى التأديبية يقصد منها حماية المهنة أو الوظيفة، وأن الدعوى الجنائية يقصد منها حماية المجتمع.
ولا شك أن نظرية الشريعة أكثر تمشيا مع المنطق وانطباقا على القواعد التشريعية الحديثة التي تمنع من محاكمة الشخص مرتين على فعل واحد.
الجريمة المدنية: يصطلح بعض الشراح على تسمية الفعل الضار بالجريمة المدنية، وهو في القانون المدني من موجبات الالتزام ويترتب عليه إمكانية التعويض.
وقد عرف الفقهاء موضوع الجريمة المدنية ولكنهم لم يطلقوا عليه هذه التسمية..فالأصل في الشريعة أن الأموال والنفوس معصومة، وكل فعل ضار بالإنسان أو بماله مضمون على فاعله إذا لم يكن له حق فيه، والضمان إما عقوبة جنائية إذا كان الفعل ضار معاقبا عليه ويسمى حينها جريمة، وإما تعويض مالي إذا لم يكن الفعل الضار معاقبا عليه، ولا يسمى جريمة في هذه الحالة.. وقد يجتمع فيه الأمران معا.
وتتفق الشريعة مع القوانين الوضعية في هذه الناحية. فهي تجعل الإنسان مسئولا مدنيا عن كل فعل ضار بغيره، سواء كان القانون يعتبره جريمة أم لا يعتبره كذلك. فإن كان الفعل جريمة، وكان ضارا في الوقت نفسه بالغير، كان الفاعل مستحقا للعقوبة وضامنا للضرر، كما هو حكم الشريعة.

المطلب الثاني: أنواع الجرائم:
أولا: تقسيم الجرائم من حيث جسامة العقوبة: حدود - قصاص - دية - تعازير
(1) جرائم الحدود: وهي الجرائم المعاقب عليها بعقوبة مقدرة حقا لله تعالى، ومعنى العقوبة المقدرة أنها محددة معينة فليس لها حد أدنى ولا حد أعلى، ومعنى أنها حق لله أنها لا تقبل الإسقاط لا من الأفراد ولا من الجماعة.
وتعتبر العقوبة حقا لله في الشريعة كلما استوجبتها المصلحة العامة، وجرائم الحدود معينة ومحدودة العدد، وهي سبع جرائم: الزنا / القذف / الشرب /السرقة / الحرابة / الردة / البغي.
(2) جرائم القصاص والدية: وهي الجرائم المعاقب عليها بقصاص أو دية، وكل من القصاص والدية عقوبة مقدرة حقا للأفراد، وسبق معنى أنها مقدرة، ومعنى أنها حق للأفراد أن للمجني عليه أن يعفو عنها إذا شاء، فإذا عفا أسقط العفو العقوبة المعفو عنها.
وجرائم القصاص والدية خمس: القتل العمد /شبه العمد / الخطأ / الجناية على ما دون النفس عمدا /أو خطأ.
ويتكلم الفقهاء عن هذا القسم عادة تحت عنوان الجنايات، أو الجراح أو الدماء.
(3) جرائم التعازير: وهي الجرائم التي ليس لها عقوبة محددة أو مقدرة شرعا. والتعزير هو التأديب، وقد اكتفت الشريعة بتقرير مجموعة من العقوبات التي يمكن التعزير بها، وتركت للقاضي اختيار العقوبات في كل جريمة بما يلائم ظروف الجريمة والمجرم.
وجرائم التعزير ليس في الإمكان تحديدها. وإن كان نصت الشريعة على بعضها كالربا وخيانة الأمانة والسب والرشوة، وتركت لأولي الأمر النص على الباقي بحسب ما تقتضيه حال الجماعة ومصلحتها وبما لا يخالف نصوص الشرع ومقاصده.
والفرق بين الجريمة التي نصت عليها الشريعة والعمل الذي يحرمه أولو الأمر: أن ما نصت عليه الشريعة محرم دائما فلا يصح أن يعتبر فعلا مباحا، أما ما يحرمه أولو الأمر اليوم فيجوز أن يباح غدا إذا اقتضت ذلك مصلحة عامة.
أهمية هذا التقسيم:
(1) من حيث العفو: الحدود لا يجوز فيها العفو مطلقا. وجرائم القصاص فالعفو جائز من المجني عليه، أو أولياء الدم فقط إلا إذا كان المجني عليه قاصرا ولم يكن له أولياء كان الرئيس الأعلى للدولة وليه، فيجوز له العفو عن القصاص إلى الدية. كما يجوز لرئيس الدولة العفو في جرائم التعازير بشرط أن لا يمس عفوه حقوق المجني عليه الشخصية. وليس للمجني عليه أن يعفو في التعازير إلا عما يمس حقوقه الشخصية المحضة.. وإن كان عفوه قد يعتبر ظرفا مخففا.
(2) من حيث سلطة القاضي: إذا ثبتت الجريمة الحدية فدور القاضي النطق بحكم الله المقدر فيها.. لا ينقص منها ولا يزيد ولا يستبدل ولا يوقف تنفيذ العقوبة، فسلطة القاضي في جرائم الحدود قاصرة على النطق بالعقوبة المقررة للجريمة.
وفي جرائم القصاص سلطة القاضي قاصرة على توقيع العقوبة المقررة أو بالدية في الحالات وبالشروط المقررة، وله في حالة العفو أن يعزر.. أما جرائم التعازير فللقاضي فيها سلطة واسعة في اختيار نوع العقوبة ومقدارها، وله أن يأمر بتنفيذ العقوبة أو إيقاف تنفيذها.
(3) من حيث قبول الظروف المخففة: ليس للظروف المخففة أي أثر على تقرير العقوبة في جرائم الحدود والقصاص والدية، خلافا لجرائم التعازير.
(4) من حيث إثبات الجريمة: يشترط لإثبات جرائم الحدود والقصاص عددا معينا من الشهود، ويتشدد في إثباتها خلافا للتعزير.
ملاحظة: لا تعرف القوانين الوضعية هذا التقسيم، وإنما هي تقسم الجرائم غالبا إلى جنايات وجنح ومخالفات.
ثانيا: تقسيم الجرائم من حيث قصد الجاني: مقصودة و غير مقصودة:
(1) الجرائم المقصودة: هي التي يتعمد الجاني فيها إتيان الفعل المحرم عالما بأنه محرم، وهذا هو المعنى العام للعمد، وقد يكون للعمد معنى خاص كما في قتل العمد (إزهاق النفس).
(2) الجرائم غير المقصودة: هي التي لا يتعمد فيها الجاني إتيان الفعل المحرم ولكن يقع الفعل المحرم (أ) نتيجة خطأ منه، إما في نفس الفعل - يرمي صيدا فيصيب آدميا- أو في ظنه - يرمي ما يظنه حيوانا فإذا هو إنسان (ب) أو نتيجة إهماله وعدم احتياطه دون أن يقصد الفعل أساسا كمن ينقلب وهو نائم على آخر بجواره.
أهمية هذا التقسيم:
(1) الجريمة المقصودة تدل على روح إجرامية لدى الجاني ومن ثم كانت عقوبتها شديدة خلافا لغير المقصودة.
(2) الجريمة غير المقصودة يعاقب عليها لمجرد الإهمال أو عدم التثبت، خلافا للمقصودة فلابد من العمد والقصد فيها.
ملاحظة: تعرف القوانين الوضعية هذا التقسيم، وهي تتفق مع الشريعة في موضوعه ونتائجه.
ثالثا: تقسيم الجرائم من حيث وقت كشفها: متلبس بها و غير متلبس بها:
(1) الجريمة المتلبس بها: هي التي تكشف وقت ارتكابها، أو عقب ذلك ببرهة يسيرة.
(2)الجريمة التي لا تلبس فيها: هي التي لا تكشف وقت ارتكابها، أو التي يمضي بين ارتكابها وكشفها زمن غير يسير.
أهمية هذا التقسيم:
(1) من حيث الإثبات: إذا كانت الجريمة من جرائم الحدود فيجب أن يكون الشهود قد شهدوا بأنفسهم الحادث وقت وقوعه، ورأوا الجاني وهو يرتكب الجريمة (خلافا لمالك الذي يرى بإمكانية الشهادة على الشهادة في الحدود).
(2) من حيث الأمر بالمعروف: إذ شوهد الجاني وهو يرتكب الجناية كان لأي شخص أن يمنعه بالقوة عن ارتكاب الجريمة.
رابعا: تقسيم الجرائم من حيث طريقة ارتكابها:
تقسم إلى إيجابية و سلبية:
(1) الجريمة الإيجابية: وهي التي تكون بإتيان فعل منهي عنه كالسرقة والزنا.
(2) الجريمة السلبية: وهي التي تكون بالامتناع عن إتيان فعل مأمور به، كامتناع الشاهد عن أداء الشهادة والامتناع عن إخراج الزكاة.
وقد اتفق الفقهاء على أن الجريمة الايجابية قد تقع بطريق السلب، وإن اختلفوا في بعض التطبيقات كمن منع إنسانا عن الطعام والشراب بحبسه هل يعتبر قاتلا عمدا بالترك؟ الجمهور: نعم، وأبو حنيفة: لا.
متى يعتبر الممتنع مسئولا؟ الظاهر أن الممتنع لا يعتبر مسئولا عن كل جريمة ترتبت على امتناعه، إلا إذا كان واجبا عليه شرعا أو عرفا أن لا يمتنع.
ملاحظة: اتجاه فقهاء الشريعة في القتل بالترك هو نفس الاتجاه الذي استقر عليه الشراح ابتداء من القرن ال19، وقيدوه بشروط: 1/أن يكون الشخص مكلفا في الأصل بالعمل قانونا أو اتفاقا، 2/أن يكون الامتناع أو الترك مخالفة لهذا التكليف.. وهو يساوي تماما ما يشترطه الفقهاء من أن يكون العمل واجبا بمقتضى الشريعة والتي توجب الوفاء بالعقود.. ويظهر تميز الشريعة في أنها تجعل الجاني مسئولا عن الترك والامتناع إذا كان العرف يوجب على الشخص أن يعمل ولا يمتنع.
رابعا: تقسيم الجرائم من حيث كيفية ارتكابها:
أولاً: تقسم إلى جرائم بسيطة و جرائم اعتياد:
(1) الجريمة البسيطة: هي التي تتكون من فعل واحد كالسرقة والشرب، سواء كانت مؤقتة أو مستمرة، وجرائم الحدود والقصاص أو الدية كلها جرائم بسيطة.
(2) جريمة الاعتياد: هي التي تتكون من تكرر وقوع الفعل، أي أن الفعل بذاته لا يعتبر جريمة، ولكن الاعتياد على ارتكابه هو الجريمة.. وجرائم الاعتياد توجد بين جرائم التعازير، فإن كان نص ولي الأمر يشترط للعقاب اعتياد الفعل فالجريمة جريمة عادة، وإن كان يكتفي بمجرد وقوع الفعل فالجريمة بسيطة.
أهمية هذا التقسيم:
1) من حيث مبدأ سريان التقادم: في الجرائم البسيطة تبدأ المدة المسقطة للدعوى من يوم ارتكاب الجريمة إن كانت مؤقتة، ومن يوم انتهاء الحالة المحرمة إن كانت مستمرة. أما في جرائم العادة فالمدة المسقطة تبدأ من تاريخ وقوع الفعل الأخير المكون للعادة.
2) من حيث الاختصاص: يكون الاختصاص في الجريمة البسيطة للمحكمة التي وقع في دائرتها الفعل المكون للجريمة إذا كانت الجريمة مؤقتة، فإن كانت مستمرة أو متجددة فالاختصاص لكل محكمة استمر في دائرتها الفعل أو تجدد..والاختصاص في الجريمة العادة للمحكمة التي وقع في دائرتها الفعل الأخير المكون للعادة.
3) من حيث تطبيق قواعد التداخل: الحكم في جريمة عادة يمنع من محاكمة الجاني على الأفعال السابقة ولو لم يحاكم عنها.
ملاحظة: تتفق الشريعة والقوانين الوضعية في تقسيم الجرائم إلى جرائم بسيطة وجرائم عادة، وتتفق معها في تعريف جريمة العادة وفي أن العقاب على الاعتياد، وفي مصر استقر الفقه والقضاء على أن العادة تتكون من وقوع الفعل أو الترك مرتين.
الجرائم التي تتكون من أفعال متلاحقة: هي التي تتكون من عدة أفعال كل واحد يشكل جريمة، لكنها ارتكبت من أجل تحقيق غرض جرمي واحد. كأن يسرق أو يختلس على دفعات لئلا يكتشف أو يضرب شخصا في رأسه ثم في بطنه.. وطبقا للشريعة فأنها تعتبر جريمة يعاقب عليها بعقوبة واحدة.. لأن قواعدها لا تسمح بتعدد العقوبة على الجرائم التي من نوع واحد، وتكتفي بعقوبة واحدة عليها طبقا لقاعدة التداخل، وهذا يقتضي من باب أولى اعتبار الأفعال المتلاحقة الصادرة تنفيذا لغرض جنائي واحد جريمة واحدة، كما أن وقوع هذه الأفعال تنفيذا لفكرة واحدة ولغرض جنائي واحد يجعل منها جريمة واحدة.

ثانياًَ: تقسيمها إلى جرائم مؤقتة و جرائم مستمرة:
(1) الجرائم الوقتية: هي التي تتم بمجرد الفعل أو الامتناع وبحيث لا يستغرق وقوعها أكثر من الوقت المحدد لذلك الفعل أو الامتناع. ومثل جريمة الشرب فإنها تتم بمجرد شرب الخمر، وجريمة كتمان الشهادة فإنها تتم بمجرد الامتناع عن أداء الشهادة.
(2) الجرائم غير المؤقتة: هي التي تتكون من فعل أو امتناع قابل للتجدد والاستمرار فيستغرق وقوعها كل الوقت الذي تتجدد فيه الجريمة أو تستمر، ولا تعتبر الجريمة منتهية إلا بانتهاء حالة التجدد أو الاستمرار.. ومثال ذلك حبس شخص دون حق، والامتناع عن إخراج الزكاة، والامتناع عن تسليم طفل إلى حاضنه، والامتناع عن أداء الدين مع المقدرة عليه.
وتنقسم الجرائم غير المؤقتة إلى: (1) متجددة يتوقف فيها استمرار الجريمة على تدخل إرادة الجاني تدخلا متكررا مقصودا، كالامتناع عن أداء الزكاة، أو عن تسليم المحضون لحاضنه. (2) مستمرة لا يتوقف استمرار الجريمة فيها على تدخل إرادة الجاني، بل يستمر الفعل المكون للجريمة دون حاجة لتدخل إرادة الجاني، كحفر بئر في الطريق، وإقامة بناء في ملك الغير.
مقياس التمييز: نصوص التشريع هي وحدها التي تبين إن كانت الجريمة مؤقتة أم غير مؤقتة، لأن هذه النصوص تعرف الجريمة وتبين ركنها المادي فتميزها بذلك عن غيرها، فإن كان الفعل أو الامتناع يقع وينتهي بمجرد ارتكاب الفعل أو قيام حالة الامتناع فالجريمة مؤقتة، وإن كان الفعل أو الامتناع يكون حالة مستمرة الحدوث أو التجدد فالجريمة غير مؤقتة.
وينبغي أن نميز بين استمرار الجريمة واستمرار نتيجتها، فالسرقة تتم بأخذ الشيء خفية وبقاء المسروقات بعد ذلك تحت يد السارق إنما هو استمرار لنتيجتها. وجريمة الشرب تتم بتناول الخمر، فإذا سكر الشارب فيعتبر استمرارا لنتيجتها.
أهمية هذا التقسيم: لهذا التقسيم أهمية من عدة وجوه نبسطها فيما يلي:
(أ‌) من حيث الاختصاص: في الجريمة المؤقتة تختص المحكمة التي وقع في دائرتها الفعل المكون للجريمة.. أما في غير المؤقتة فتختص كل محكمة وقع في دائرتها الفعل المتجدد أو المستمر.
(ب‌) من حيث التقادم: ففي الجريمة المؤقتة تحسب المدة المسقطة للدعوى من وقت ارتكاب الجريمة، وفي غير المؤقتة من انتهاء حالة التجدد أو الاستمرار.
(ت‌) من حيث تطبيق التشريعات الجديدة: تسري على الجرائم غير المؤقتة التي بدأت قبل صدور التشريعات الجديدة، إذا ظلت حالة التجدد أو استمرار قائمة إلى ما بعد العمل بهذه التشريعات.. ولا يكون ذلك في المؤقتة.
(ث‌) من حيث قوة الشيء المقضي به: يعتبر الحكم في الجريمة غير المؤقتة شاملا لجميع الوقائع السابقة على رفع الدعوى، ولو لم يتطرق لها الحكم؛ لأن كل الوقائع تكون جريمة واحدة، أما الوقائع اللاحقة لصدور الحكم، فهذه يجوز رفع الدعوى من جديد عنها إذا كانت الجريمة من الجرائم المتجددة، ولا يجوز رفع الدعوى عنها إذا كانت من الجرائم المستمرة.
أما في الجرائم الوقتية إذا كانت هناك وقائع أخرى سابقة لم تعرض على المحكمة، فلا يعتبر الحكم شاملا لها ولو كانت من نوع التي صدر عنها الحكم، وكذلك الحال في الوقائع التي حدثت بعد صدور الحكم، مع مراعاة قواعد التداخل بالنسبة للوقائع السابقة.
ملاحظة: لم يبحث الفقهاء هذا التقسيم لتركز اهتمامهم بالجرائم الثابتة والمقدرة (الحدود والقصاص والدية)وهي كلها مؤقتة،
أما جرائم التعازير والتي هي مجال هذا التنوع والتقسيم فمتروك أمرها للحاكم وبحسب المصلحة والظروف.
مع ملاحظة أن النظرية السائدة في القوانين الوضعية تقضي بأن الحكم ليس حجة إلا فيما يختص بالواقعة المحكوم فيها، بينما الشريعة تأخذ بنظرية التداخل.
خامساً: تقسيم الجرائم من حيث طبيعتها الخاصة:
أولاً: تقسيمها إلى جرائم ضد الجماعة و جرائم ضد الأفراد:
(1) الجرائم التي تقع ضد الجماعة: هي التي شرعت عقوبتها لحفظ مصالح الجماعة، سواء وقعت الجريمة على فرد، أو على جماعة، أو على أمن الجماعة ونظامها. فعقوبة هذا النوع كما يقول الفقهاء- إنما شرعت حقا لله تعالى، والمعنى: أنها شرعت لحماية الجماعة، ولكنهم يجعلون العقوبة حقا لله، إشارة إلى عدم جواز العفو عنها، أو تخفيفها، أو إيقاف تنفيذها.
(2) الجرائم التي تقع ضد الأفراد: هي التي شرعت عقوبتها لحفظ مصالح الأفراد، ولو أن ما يمس مصلحة الأفراد هو في الوقت ذاته ماس بمصالح الجماعة.
وتعتبر جرائم الحدود من الجرائم الماسة بمصلحة الجماعة، ولو أنها في الغالب تقع على أفراد معينين، وتمس مصالحهم مساسا شديدا، كالسرقة والقذف، وليس في اعتبارها ماسة بالجماعة إنكار لمساسها بالأفراد، وإنما هو تغليب لمصلحة الجماعة على مصلحة الأفراد، بحيث لو عفا الفرد لم يكن لعفوه أثر على الجريمة والعقوبة.
وجرائم القصاص والدية من الجرائم التي تقع على الأفراد، وليس معنى ذلك أنها لا تمس الجماعة وإنما معناه تغليب حق الفرد على حق الجماعة، فللفرد أن يتنازل عن القصاص والدية، وهما العقوبتان المقررتان أصلا للجريمة، وقد أعطى له حق التنازل لأن الجريمة تمسه مساسا مباشرا، فإذا تنازل عن العقوبة لم يترك الجاني، وإنما يمكن أن يعاقب تعزيرا، حفظا لمصلحة الجماعة التي مست مساسا غير مباشر.
وجرائم التعازير بعضها يمس مصلحة الجماعة، وبعضها يمس مصلحة الأفراد والجماعة، على المعنى الذي شرحناه سابقا.
والواقع أن كل جريمة تمس مصلحة الجماعة تمس في النهاية مصلحة الأفراد، وكل جريمة تمس مصلحة الأفراد تمس في النهاية مصلحة الجماعة، ولو كان محل الجريمة حقا خالصا للفرد، وفي هذا يقول حق الفقهاء: (ما من حق لآدمي إلا ولله فيه حق، إذ من حق الله على كل مكلف ترك أذاه لغيره).

ثانياً: تقسيم ها إلى جرائم عادية و جرائم سياسية:
(1) الجريمة السياسية هي التي ترتكب لتحقيق غرض سياسي أو انطلاقا من بواعث سياسية.. وهي محصورة في الشريعة بجريمة البغي، وهو الخروج على الإمام تأويل سائغ مع الشوكة أو المنعة.
(2) الجريمة العادية هي التي على خلاف ذلك... فلا اختلاف بينهما إلا في الغرض أو الباعث.. مع أنه يمكن أن ترتكب جريمة عادية وباعثها سياسي.
الشروط التي يجب توافرها في البغاة:
1/ أن يكون الغرض من الجريمة إما عزل ولي الأمر أو الامتناع عن الطاعة.. أما إذا كان الغرض إحداث أي تغيير يتعلق بالحكم والدولة يتنافى مع نصوص الشريعة، فالجريمة تعتبر إفساد في الأرض، ومحاربة لله ورسوله.
2/ التأويل السائغ بأن تكون لهم شبهة سائغة فيما يدعون أو يأخذون على الدولة.
3/ الشوكة والمنعة.
4/ الثورة أو الحرب بأن تقع الجريمة في ثورة أو حرب أهلية اشتعلت لتنفيذ الغرض من الجريمة، أما الجريمة التي ترتكب في غير ذلك فهي عادية (ابن ملجم).
حقوق البغاة ومسئوليتهم قبل الثورة: للبغاة كما لأهل العدل أن يدعوا إلى ما يعتقدون وأن يقولوا ما يشاءون في حدود نصوص الشريعة، ومن خالف فيعاقب على جريمته باعتبارها جريمة عادية، فإن كان قاذفا حد، وإن كان سابا عزر.
وللبغاة حق الاجتماع، فإذا تحيزوا أو اجتمعوا في مكان معين، فلا سلطان لأحد عليهم، ما داموا لم يمتنعوا عن حق، أو يخرجوا عن طاعة. ولا يقاتلوا حتى يقاتلوا عند الجمهور خلافا لأبي حنيفة فيكتفي بتجمعهم وامتناعهم.
حقوق البغاة ومسئوليتهم أثناء الثورة وما بعدها: على ولي الأمر أن يقصد من القتال ردع البغاة لا قتلهم وإفنائهم، وأن يقاتل من أقبل منهم، ويكف عمن أدبر، وأن لا يجهز على جريحهم، وأن لا يقتل أسيرهم ولا يصادر أموالهم، ولا يسبي نساؤهم وأولادهم.
فإذا انتهت حالة الحرب وجب على ولي الأمر أن يرد على البغاة أموالهم التي في يد أهل العدل، وما تلف منها في غير قتال فهو مضمون على متلفه من أي الطرفين على الرأي الراجحـ وهناك رأي بتضمين البغاة ما أتلفوه في الحرب.
لكن لولي الأمر أن يعاقبهم على خروجهم عن الطاعة بعقوبة تعزيرية إن رأى في ذلك مصلحة، ولكن يشترط أن لا تكون هذه العقوبة القتل عند مالك والشافعي وأحمد، لأنهم لا يبيحون قتل الجريح ولا الأسير فأولى أن لا يباح قتل المسلم، أما أبو حنيفة فيبيح قتل الأسير للمصلحة العامة ويبيح قتل البغاة على أثر الظهور عليهم، فالقياس عنده أن يقتل الباغي تعزيزا، كما أن لولي الأمر حق العفو عن العقوبة كلها أو بعضها.
عقوبة البغاة: ظاهر مما تقدم أن عقوبة البغاة تختلف باختلاف الأحوال، فالجرائم التي يرتكبونها قبل الثورة والحرب أو بعدها يعاقبون عليها بعقوباتها العادية ؛ لأنها جرائم عادية لم تقع في حالة ثورة أو حرب، أما الجرائم التي ترتكب أثناء الثورة أو الحرب الأهلية، مما اقتضته منها حالة الثورة أو الحرب: كمقاومة رجال الدولة وقتلهم، والاستيلاء على البلاد وحكمها، والاستيلاء على الأموال العامة أو إتلافها ... فهذه الجرائم السياسية، وتكتفي الشريعة فيها بإباحة دماء البغاة، وإباحة أموالهم بالقدر الذي يقتضيه ردعهم والتغلب عليهم، فإذا ظهرت الدولة عليهم، وألقوا سلاحهم، عصمت دماؤهم وأموالهم، وكان لولي الأمر أن يعفو عنهم، أو أن يعزرهم على خروجهم لا على الجرائم التي ارتكبوها أثناء خروجهم، فعقوبة الخروج إذن هي التعزير.
أما الجرائم التي لا تستلزمها طبيعة الثورة أو الحرب، فهذه تعتبر جرائم عادية يعاقبون عليها بالعقوبات العادية، ولو أنها وقعت أثناء الثورة أو الحرب، كشرب الخمر، والزنا، وقتل أحد الثائرين زميلا له أو سرقة ماله.
ملاحظة: كانت القوانين الوضعية إلى ما قبل الثورة الفرنسية تعتبر الجريمة السياسية أشد خطرا وتعامل المجرم السياسي معاملة تتنافى مع أبسط قواعد العدالة، وتحرمه من الحقوق التي يتمتع بها المجرم العادي تغيرت نظرتها بعد أن كثرت الثورات في البلاد الأوروبية، وتعددت الانقلابات في النظم السياسية، فأصبح المجرم السياسي ينظر إليه نظرة عطف وإشفاق، وأنه حامل رسالة.
اختلف الشراح في معيار الجريمة السياسة هل هو الغرض والباعث؟ أم طبيعة الحق المعتدى عليه؟ وعيب الأول أن الأمر فيه معلق على باعث المجرم مما قد يخول للقتلة والسارقين أن يتمتعوا بميزات غير سائغة.. وعيب الثاني أنه يجعل بعض الجرائم التي لا شك في أنها سياسية جرائم عادية كما في حالة إتلاف الأموال عامة أو خاصة أثناء الحرب. وانتهى رأي إلى النظر في وقت ارتكابها وهل هو أثناء الثورة ومما تقتضيه أم في الوقت العادي.. وأحدث الآراء يعتبر الجريمة سياسية إذا كانت موجهة ضد الحكام وشكل الحكم الداخلي فقط، لا ضد النظام الاجتماعي ولا ضد الدولة واستقلالها وعلاقتها بغيرها من الدول، وبشرط أن تقع في حالة ثورة أو حرب أهلية، وأن تكون مما تقتضيه طبيعة الثورة أو الحرب، وهذا يتفق مع الحدود التي وضعتها الشريعة للجريمة السياسية.


الأركان العامة للجريمة
الجرائم محظورات شرعية زجر الله عنها بحد أو بتعزير، وهذه المحظورات هي إما إتيان فعل منهي عنه، أو ترك فعل مأمور به، وقد وصفت بأنها شرعية؛ لأنها يجب أن تكون محظورة بنصوص الشريعة، وأن الفعل والترك لا يعتبر بذاته جريمة إلا إذا كان معاقبا عليه، ولما كانت الأوامر والنواهي تكاليف شرعية فإنها لا توجه إلا لكل عاقل فاهم للتكليف، ويتبين مما سبق أن للجريمة بصفة عامة أركانا لا بد من توافرها:
1- أن يكون هناك نص يحظر الجريمة ويعاقب عليها، وهو ما يسمى بالركن الشرعي للجريمة.
2- إتيان العمل المكون للجريمة سواء كان فعلا أو امتناعا، وهذا ما يسمى بالركن المادي للجريمة.
3- أن يكون الجاني مكلفا أي مسئولا عن الجريمة، وهذا ما يسمى بالركن الأدبي.
فيجب توفرها بصفة عامة في كل جريمة، وهناك بجانبها في كل جريمة على حدة أركانا خاصة كركن الأخذ خفية في السرقة، وركن الوطء في جريمة الزنا، وغير ذلك.

المبحث الأول: الركن الشرعي للجريمة:
توجب الشريعة لاعتبار الفعل جريمة أن يكون هناك نص يحرم هذا الفعل، ويعاقب علي إتيانه، ويشترط للعقاب على الفعل المحرم أن يكون النص الذي حرمه نافذ المفعول وقت اقتراف الفعل، وأن يكون ساريا على المكان الذي اقترف فيه الفعل، وعلى الشخص الذي اقترفه، فإذا تخلف شرط من هذه الشروط امتنع العقاب على الفعل المحرم:
المطلب الأول: النصوص المقررة للجرائم والعقوبات:
قاعدة (لا جريمة ولا عقوبة إلا بنص):
يعني هذا المبدأ حصر مادة التجريم والعقاب في النصوص القانونية والتي تتحدد بمقتضاها الأعمال التي تعتبر جرائم، وبيان تلك الجرائم، وتحديد العقوبات المقررة لها، من حيث النوع والمقدار، بحيث يستطيع الأفراد معرفة الأفعال المحظورة عليهم إتيانها، والمعاقب عليها مسبقا، ليواجهوا سلوكهم الوجهة المشروعة ويتحاشوا الوقوع فيما هو محظور عليهم.. ولم يظهر هذا المبدأ في القوانين الوضعية المعاصرة إلا في أعقاب الثورة الفرنسية، فأدخل في التشريع الفرنسي حينها، ثم حرصت الدساتير والتشريعات الوضعية الحديثة وإعلانات حقوق الإنسان بالنص صراحة على هذا المبدأ ، باعتباره (1) من الضمانات الأساسية لحريات الأفراد، (2) قيد على سلطات الدولة المختلفة يحولها دون التعسف.
موقف الشريعة الإسلامية من هذا المبدأ:
هي أول نظام قرر مبدأ لا جريمة ولا عقوبة إلا بنص منذ أكثر من أربعة عشر قرنا. ويستخلص تقرير الشريعة بهذا المبدأ مما يلي:
أولا: النصوص الشريعة: مثل قوله تعالى: (وما كنا معذبين حتى نبعث رسولاً)،(وما كان ربك مهلك القرى حتى يبعث في أمها رسولا يتلو عليهم آياتنا)، (لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل)، (لا يكلف الله نفسا إلا وسعها).
ثانيا: القواعد العامة:مثل: لا حكم لأفعال العقلاء قبل ورود النص، والأصل في الأشياء والأفعال الإباحة، ولا يكلف شرعا إلا من كان قادرا على فهم دليل التكليف...
فلا تستند هذه القاعدة إلى مجرد العقل والمنطق، أو نصوص الشريعة العامة التي تأمر بالعدل والإحسان وتحرم الظلم والحيف، وإنما تستند إلى نصوص خاصة صريحة في هذا المعنى، كما تبين.
كيف طبقت الشريعة القاعدة؟
أثر القاعدة في جرائم الحدود:
طبقت الشريعة قاعدة أن لا جريمة ولا عقوبة بلا نص تطبيقاً دقيقاً في جرائم الحدود كالتالي:
وجرائم الحدود سبع:
1. الزنا: (وَلاَ تَقْرَبُواْ الزِّنَى)، (الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا مِئَةَ جَلْدَةٍ).
2. القذف: (وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاء فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ) .
3. الشرب: (إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلاَمُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ). والعقوبة: "اضربوه".
4. السرقة: ( وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُواْ أَيْدِيَهُمَا).
5. الحرابة: (إِنَّمَا جَزَاء الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ ..)
6. الردة: (وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ)، (من بدل دينه فاقتلوه)
7. البغي: (فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ)، (من أتاكم وأمركم على رجل واحد، يريد أن يشق عصاكم ويفرق جماعتكم فاقتلوه).

أثر القاعدة في جرائم القصاص والدية:
القتل العمد: (ومن يقتل مؤمناً ..) والعقوبة: القصاص أو الدية، القتل شبه العمد: تحرمه النصوص وعقوبته الدية المغلظة. القتل الخطأ: (وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمناً إلا خطأً ..) والعقوبة: الدية والكفارة.
والإتلاف العمد للأطراف تحرمه النصوص و فيه القصاص أو الدية وفي قطع الأطراف والجراح خطأ حددت العقوبة على أساس عدد الأعضاء في الجسم فما كان في الجسم منه عضو واحد كالأنف ففيه الدية كاملة وهكذا، وتجب الدية في إذهاب المعاني، كالسمع.
أما الجراح فقد حددت عقوبة بعضها دون بعض، فجعل أرش الموضحة خمساً من الإبل، وهكذا وما لم يحدد ففيه الحكومة.
أثر القاعدة في جرائم التعازير:
للقاضي أن يختار لكل جريمة ولكل مجرم العقوبة الملائمة من مجموعة من العقوبات شرعت لعقاب الجرائم التعزيرية كلها، وللقاضي أن يخفف العقوبة وأن يغلظها.
لم تنص الشريعة على كل جرائم التعازير، ولكن الشريعة لم تترك لأولي الأمر حرية مطلقة فيما يحلون أو يحرمون بل أوجبت أن يكون ذلك متفقاً مع نصوص الشريعة ومبادئها العامة وروحها التشريعية.
فيجب على القاضي قبل كل شئ أن يبحث عما إذا كان الفعل المنسوب للجاني معصية بحسب نصوص الشريعة أم لا، فإن وجده معصية بحيث إن كانت التهمة ثابتة قبل الجاني أم لا، فإن كانت ثابتة عاقبه بإحدى العقوبات التي وضعتها الشريعة للتعزير، بشرط أن تكون عقوبة ملائمة في نوعها وكمها للجريمة وللمجرم، أما إذا وجد القاضي أن الفعل ليس معصية فلا جريمة ولا عقوبة.
ج. تطبيق المبدأ في جرائم التعزير:
اختلف مسلك الشريعة في تطبيق قاعدة لا جريمة ولا عقوبة إلا بنص في جرائم التعزيز، عنه في جرائم الحدود والقصاص والدية.. فلم تتقيد الشريعة بالحدود الضيقة التي قيدت بها تطبيق القاعدة في تلك الجرائم.
وإنما توسعت في تطبيق القاعدة على جرائم التعزير إلى حد ما من وجهين:
(أ) من حيث التجريم.. حيث لم ينص الشارع الحكيم على كل جريمة تعزيرية بعينها، أو بحيث يعينها النص تعيينا دقيقا، وإنما نص على تجريم طائفة منها(كالرشوة، وخيانة الأمانة، والغش، والكذب، وقول الزور، والسب، والتجسس، والقمار...) فقد نص على تحريم بعض الأفعال بأعيانها، وسوغت الشريعة لولاة الأمر تجريم كل فعل آخر أضر بالمصلحة العامة لكن بما لا يخالف نصوص الشريعة وقواعدها العامة..
(ب) من حيث العقاب.. حددت الشريعة أنواع العقوبات التي يجوز المعاقبة بها في التعزير، ووضعت لذلك ضوابط معينة، وتتدرج هذه العقوبات (وعظ وهجر وضرب/ لوم وتوبيخ/ حبس/قتل/ غرامة/ تشهير...).
وللقاضي سلطة تقديرية في توقيع العقوبة الأنسب كما وكيفا بحسب ما تتطلبه المصلحة والظروف المحيطة بالجريمة.

أقسام التعزير:
1) التعزير على المعاصي.. وهذا هو الأساس فقد عرف التعزير بأنه عقوبة في معصية لا حد فيها ولا كفارة.. والمعاصي هنا أنواع: أ/ ماشرع فيه الحد لكنه امتنع لشبهة ونحوها كسرقة المال العام، وقتل الأب لابنه ب/ ما شرع في جنسه الحد لا فيه كمباشرة الأجنبية وسرقة ما دون النصاب ج/ ما لم يشرع فيه الحد ولا في جنسه كأكل الميتة والغش وخيانة الأمانة...
· أنواع العقوبات:
(1) عقوبات بدنية: وهي العقوبات التي تقع على جسم الإنسان، كالقتل والجلد والحبس.
· القتل: (من أتاكم وأمركم على رجل واحد يريد أن يشق عصاكم ويفرق جماعتكم فاقتلوه)، وفي رواية: (ستكون هنات وهنات، فمن أراد أن يفرق هذه الأمة وهي جمع فاضربوه بالسيف كائناً من كان).
· الضرب: وقد اختلف في أكثره.
· الحبس المحدد المدة: وقد حبس النبي صلى الله عليه وسلم رجلاً في تهمة ثم خلى سبيله، وثبت أنه حبس ثمامة بن أثال في المسجد.
· الحبس غير محدد المدة: فمن لا تردعهم العقوبات العادية، ويظل المجرم محبوساً حتى تظهر توبته وينصلح حاله فيطلق سراحه وإلا بقى محبوساً مكفوفاً شره عن الجماعة حتى يموت.
· التغريب والإبعاد: في جريمة الزنا فإن أبا حنيفة يراه تعزيراً وبقية الأئمة يرونه حداً, و فيما عدا جريمة الزنا فالتغريب يعتبر تعزيراً باتفاق. ويلجأ لعقوبة التعريب إذا تعددت أفعال المجرم إلى اجتذاب غيره إليها أو استضراره بها. ويرى بعض الفقهاء في مذهبي الشافعي وأحمد أن لا تصل مدة الإبعاد إلى سنة كاملة.
· الصلب: والصلب للتعزير لا يصحبه القتل طبعاً ولا يسبقه, وإنما صلب الإنسان حياً ولا يمنع عنه طعامه ولا شرابه, ولا يمنع من الوضوء للصلاة ولكنه يصلي إيماء, ويشترط الفقهاء في الصلب أن لا تزيد مدته على ثلاثة أيام. ومما يحتج به لمشروعية الصلب التعزيرية أن رسول الله صلى الله عليه وسلم عزر رجلاً يقال له أبو ناب بالصلب على جبل.
· تسويد الوجه: مثل ما روي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه في شاهد الزور أنه أمر بإركابه دابة مقلوباً وتسويد وجهه، فإنه لما قلب الحديث قلب وجهه، ولما سود وجهه بالكذب سود وجهه.
· قطــــع اليــــــد: وقد ثبت أن ابن الزبير رضي الله عنه قطع يد رجل كان يقرض النقود.
(2) عقوبات نفسية: وهي العقوبات التي تقع على نفس الإنسان دون جسمه كالنصح والتوبيخ والتهديد:
· عقوبة الوعظ وما دونها: (وَاللاَّتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ).
· عقوبة الهجر: (فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ) وقد هجر النبي صلى الله عليه وسلم الصحابة الذين تخلفوا عن غزوة تبوك.
· عقوبة التوبيخ: ولقد عزر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالتوبيخ, ومن ذلك ما رواه أبو ذر- رضي الله عنه- قال: ساببت رجلاً فعيرته بأمه, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يا أبا ذر، أعيرته بأمه؟ إنك امرؤ فيك جاهلية).
· عقوبة التهديد: والتهديد عقوبة تعزيرية في الشريعة بشرط أن لا يكون تهديداً كاذباً، وبشرط أن يرى القاضي أنه منتج وأنه يكفي لإصلاح الجاني وتأديبه، ومن التهديد أن ينذره القاضي بأنه إذا عاد فسيعاقبه بالجلد أو بالحبس أو سيعاقبه بأقصى العقوبة، ومن التهديد أن يحكم القاضي بالعقوبة ويوقف تنفيذها إلى مدة معينة.
· التشهير: ومن عقوبات الشريعة التعزيرية التشهير، ويقصد بالتشهير: الإعلان عن جريمة المحكوم عليه. ويكون التشهير في الجرائم التي يعتمد فيها المجرم على ثقة الناس كشهادة الزور والغش.

2) التعزير للمصلحة العامة، أي فيما ليس بمعصية في ذاته اساسا، كتأديب الصبيان والمجانين، والحبس في التهمة، قصة عمر مع نصر بن الحجاج.
3) التعزير على المخالفة.. حيث ذهب بعض الفقهاء إلى جواز النعزير على فعل المكروه أو ترك المندوب، وبعض يقيده بالتكرار.. ولعله يسوغ إذا تطلبته المصلحة فيندرج حينها تحت القسم السابق.

ملاحظة: كيفية تطبيق القوانين للقاعدة؟
أول قانون طبقها هو الفرنسي، وكان يتشدد بتطبيقها بشكل دقيق، فتم تعيين الجرائم تعيينا دقيقا، وجعل لكل جريمة عقوبة محددة لا يزيد عنها القاضي ولا ينقصها، وينحصر دوره حال ثبوت التهمة بالنطق بتلك العقوبة فقط.. ثم حدث توجه بجعل حدين للعقوبة أدنى وأعلى.. كما ظهر وقف التنفيذ، وحق السلطة في العفو.. والإفراج المشروط، وكما واضح فالتساهل مركز فيما يتعلق في ناحية العقاب أم التجريم فظلت القاعدة مطبقة فيه حرفيا زمانا طويلا لكن تحت ضغط الواقع اضطرت بعض الدول لإعطاء المحكمة حق تجريم وتقدير كل فعل يمس مصلحة المجتمع دون أن يرد بشأنه نص جنائي خاص، وفي بعض الدول أبيح العقاب على أي فعل يمكن قياسه على فعل آخر محرم.. والتوجه السائد حاليا يتمثل في الخروج عن القاعدة من وجهين (1) من ناحية التجريم يكتفون بتعيين الأفعال المجرمة بنصوص تتصف بالعموم والمرونة (2) ومن ناحية العقاب بالاكتفاء بالتنصيص على الحد الأقصى للعقوبة.
الفرق بين الشريعة والقوانين تطبيق القاعدة:
1) من حيث التاريخ.. طبقت في الشريعة قبل أن تعرفها القوانين.
2) من حيث التطبيق بصفة عامة.. جعلت الشريعة الجريمة على نوعين، فشددت في تطبيق القاعدة في الجرائم الخطيرة التي يتأثر بها النظام في كل زمان ومكان (الحدود والقصاص) وتساهلت في تطبيقها في الجرائم الأخرى حسبما تقتضيه المصلحة والظروف.. أما القوانين فتطبقها بطريقة واحدة على كل الجرائم مما نتج عنه سلبيات.
3) من حيث الجريمة.. تراعي الشريعة عند تحديد الجرائم أن يكون النص عاما ومرنا إلى حد كبير بحيث لا يخرج عن حكمه أي حالة.. فنجد كثيرا ما يحرم الفعل بوصفه لا بذاته، وخصوصا في الجرائم التعزيرية، أما الحدية فلطبيعتها المشار إليها ضاقت بشأنها دائرة المرونة.. أما القوانين فالأصل والمعتاد التعيين الدقيق لكل فعل جرمي، وإن كان يوجد توجه ملحوظ نحو الأخذ بالمرونة والتعميم.
4) من حيث العقوبة.. غالبا ما ينص القانون على عقوبة محددة لكل جريمة ولا يملك القاضي إزاءها سلطة واسعة ولو اقتضت المصلحة والظروف غيرها.. أما في الشريعة فسلطة القاضي أوسع فيما يتعلق بالجرائم التعزيرية لا الحدية.

المطلب الثاني: سريان النصوص الجنائية على الزمان.
الأصل في التشريع الجنائي أنه ليس له اثر رجعي، فلا يسري على وقائع سابقة عليه، حيث لم يعاقب على ما ارتكبه الناس قبل نزول التحريم كالزنا والخمر وغيرها، إلا أن هنالك استثناءان:
(1) جواز رجعية القانون في حال الجرائم الخطيرة التي تمس الأمن العام، أو النظام العام: مثل قذف عائشة رضي الله عنها على الراجح أن نزول الآية كان بعد القذف، وكقصة العرنيين، وذلك لخطورة مثل هذا النوع من الجرائم، كما في جرائم الحرب والإبادة الجماعية أو الجرائم ضد الإنسانية.. يمكن إقامة الدعاوى فيها على رغم مرور وقت طويل على حدوثها وعدم توافر تشريع معين لجريمتها في وقت وقوعها.
(2) وجوب رجعية القانون الأصلح للمتهم: فلا يعاقب على شيء أصبح القانون الجديد يسمح به، ولا يعاقب بالأشد إن كان القانون الجديد أخف، و يعاقب بالأخف إن كان القانون الجديد أشد.

المطلب الثالث: سريان النصوص الجنائية على المكان.
يعتبر سريان النص التشريعي من حيث المكان عنصراً مهماً فهو من حيث القانون الوضعي يمثل سيادة الدولة على إقليمها، وبالتالي انطباق قانون هذه الدولة على كل إقليمها البري والبحري.
وبالنسبة للشريعة الإسلامية ثلاث آراء:
(الجمهور) تسري أحكام الشريعة على الجرائم التي ترتكب في دار الإسلام أيا كان مرتكبها، وعلى الجرائم التي ترتكب في دار الحرب من مقيم في دار الإسلام (أي المسلم والذمي) واختلفوا في تأخير العقوبة حتى العودة.
(أبو حنيفة) لا تطبق أحكام الشريعة على الجرائم المرتكبة خارج دار الإسلام أيا كان مرتكبها حتى لو عاد إلى بلد الإسلام بعد الجريمة لأن الولاية لم تكن موجودة من الأساس، وللمعسكر الحربي الإسلامي حكم دار الإسلام (لكن لا تطبق العقوبة إلا بعد الرجوع) ولخارجه حكم دار الحرب، كما لا تطبق في دار الإسلام على المستأمن وهو المقيم مؤقتا في دار الإسلام وذلك فيما يتعلق بالجرائم الماسة بحقوق الله دون حق العباد.
(أبو يوسف) لا تطبق أحكام الشريعة على الجرائم المرتكبة خارج دار الإسلام أيا كان مرتكبها، وتطبق في دار الإسلام على كل مقيم ولو مستأمنا.
موقف القوانين: اختلفت:
1- بعضها يطبق القوانين على رعايا الدولة دون غيرهم على كل ما يقع منهم في الداخل أو الخارج.
2- بعضها: المقيمين فقط داخل الدولة من وطنين وأجانب دون ما يقع منهم خارج الدولة.
3- بعضها: على المقيمين داخل الدولة مما يقع منهم داخل الدولة، وبعض ما يقع منهم خارجها من جرائم.

تسليم المجرمين:
لا شك أن محاكمته في مكان وقوع الجريمة أفضل لتوفر الشهود وغير ذلك.
· التسليم لدولة إسلامية تطبق الشريعة لا بأس به إن لم تتم محاكمته فإن تمت محاكمته وفقاً للشريعة فلا يجوز وإلا جاز.
· يجوز الامتناع عن التسليم إذا كانت الدولة تنوي تطبيق العقوبة الشرعية بحقه وكانت الدولة الطالبة لا تطبق الشريعة.
· التسليم لدولة غير إسلامية لا يجوز مطلقاً لرعايا الدولة أو رعايا دولة مسلمة أخرى أو ذميين.
· لا يجوز تسليم المسلم المهاجر من دولة محاربة إلى الدولة المحاربة ما لم يكن هناك اتفاق مسبق.
إبعاد المجرمين:
· لا يجوز إبعاد المسلم ولو من غير رعايا الدولة أو الذمي إلى غير دار الإسلام.

المطلب الرابع: سريان النصوص الجنائية على الأشخاص.
نصوص الشريعة تسري على كل الأشخاص، ولا يعفى منها أي شخص مهما كان مركزه أو ماله أو جاهه أو صفاته، وأن الشريعة تطبق مبدأ المساواة إلى آخر حدوده، ولا تسمح بتمييز شخص على شخص، أو هيئة على هيئة، أو فريق على فريق.
ومما يدل على ذلك: (لا فضل لعربي على...)، قصته عليه السلام مع الشخص الذي وكزه في تسوية الصف، عمر وعمرو و القبطي، (والله لو أن فاطمة سرقت...)، جبلة بن الأيهم والأعرابي وغيرها.

موقف القوانين:

القانون
الفقه
حصانة رأس الدولة (هناك ثلاث نظريات: غير مسؤول مطلقاً، مسؤول في بعض الجرائم دون بعض، مسؤول عن كل الجرائم).
الأولى: يرى أبو حنيفة عدم معاقبة الإمام الأعلى فيما يمس حقوق الله لتعذر إقامة العقوبة عليه لأنه لا ولاية لأحد عليه، ويقام عليه القصاص والحقوق المالية. و إن عين الإمام قاضياً فله عقوبة الإمام في أي جريمة سواء كانت لحق الله أو للعباد.
الثانية: يرى الجمهور معاقبته على كل جريمة.
عدم عقوبة رؤساء الدول الأجنبية.
من باب أولى أن تطبق عليهم العقوبة كرئيس الدولة الإسلامية. وأما رئيس الدولة المحاربة فيستفيد من رأي أبي حنيفة في عدم عقوبة المستأمن.
عدم عقوبة رجال السلك السياسي
يعاقبون إلا عند الأخذ بنظرية أبي حنيفة، وأما رجال السلك لدولة إسلامية فيعاقبون.
عدم عقوبة أعضاء الهيئة التشريعية والتنفيذية والقضائية.
الأصل عدم التفريق وعقوبتهم.
تمييز الظاهرين من أفراد الجماعة ( شرط الإذن لتحريك الدعوى في بعض الفئات).
لا تمييز بينهم.
تمييز الأغنياء (الإفراج بكفالة مالية).
لا تمييز بينهم.
يستثنى من ذلك الذميون فإن لهم ممارسة ما يعتقدون إباحته كشرب الخمر ولو كان محرماً شرعاً على المسلمين.

المبحث الثاني: الركن المادي للجريمة :
يتوفر بإتيان الفعل المحظور والوقوع فيه بطريق السلب أو الإيجاب.
مراحل الجريمة: تمر الجريمة قبل أن تتم بمراحل ثلاث كالتالي:
1. مرحلة التفكير والتصميم على ارتكابها.. ولا يعتبر فيها الشخص مجرما أو عاصيا لحديث (إن الله تجاوز لأمتي عما وسوست أو حدثت به أنفسها ما لم تعمل به أو تتكلم).
2. مرحلة التحضير.. بتهيئة الوسائل اللازمة لتنفيذها، وكذلك لا يعتبر فيها الشخص مجرما أو عاصيا ما لم تكن الأفعال التي أتى بها محرمة في حد ذاتها كشخص يريد الزنا بامرأة فيشتري خمرا أو مخدرا ليغيبها عن عقلها.
3. مرحلة التنفيذ.. وهنا يعتبر الفعل جريمة ومعصية كلما كان فيه اعتداء على حق فرد أو جماعة حتى لو كان لا يزال بينه وبين الركن المادي للجريمة خطوات.. كشخص يريد أن يسرق فيتسلق أو ينقب أو يفتح الباب بمفتاح مصنع.. فهذا يعتبر شروعا في الجريمة يستحق التعزير[1].
العقاب على الشروع: القاعدة في جرائم الحدود والقصاص عدم التسوية بين الجريمة التامة والتي لم تتم لحديث (من بلغ حدا في غير حد فهو من المعتدين).. كما أن التسوية تجرأ الشخص على عدم العدول والتراجع.. أما في غير هذه الجرائم فقد يمكن التسوية بينهما متى اقتضت المصلحة ذلك فباب التعزير واسع.
موقف القوانين: تتفق مع الشريعة في عدم المعاقبة على مرحلة التفكير والتحضير.. وقصر العقاب على مرحلة التنفيذ.. لكنها اختلفت في تحديد وقت بدء التنفيذ المكون للشروع.. (1) المذهب المادي: بالبدء في تنفيذ الفعل المادي المكون للجريمة. (2) المذهب الشخصي: يكفي البدء بتنفيذ أي فعل سابق مباشرة على الركن المادي شرط أن يكون مؤد إليه حتما (الشريعة أوسع حيث عاقبت على الفعل متى كان معصية ولو لم يؤد حتما للجريمة).
ومن حيث التسوية الشريعة تفرق بين الشروع وبين الجريمة التامة، وأما القوانين فبعض القوانين تسوي بين عقوبة الشروع والجريمة التامة وبعضها يفرق.
عدول الجاني عن إتمام الجريمة:
إن كان عدل عنها مكرها – كأن يضبط أو يصاب – أو عدل عنها لسبب آخر غير التوبة – كأن تنقص عليه بعض الأدوات أو يختار وقتا آخر – فذلك غير مؤثر في قيام مسؤوليته الجنائية ما دام قد أتى بأفعاله تلك معصية.
أما إن عدل مختارا تائبا فاختلفوا فيما سوى جريمة الحرابة:
1. التوبة لا تسقط العقوبة في أي جريمة سوى الحرابة.. لأن النص في الحرابة ولا يقاس عليها باقي الجرائم لأن غير المحارب مقدور عليه غالبا.. جمهور الفقهاء.
2. التوبة تسقط العقوبة في الجريمة المتعلقة بحق الله.. (هلا تركتموه..) (التائب من الذنب كمن..) والقياس على الحرابة وهي أشد الجرائم.. بعض الشافعية وبعض الحنابلة.
3. التوبة تسقط العقوبة إلا إن اختارها الشخص ليكتمل تطهيره.. كما فعل ماعز والغامدية.. ابن تيمية.
وفي القوانين الاتجاه السائد التوبة غير مؤثرة ولا تسقط عقوبة الجريمة، وإن كان بعضها جعل العدول الاختياري عن اتمام الجريمة مانع للعقاب.
الجريمة المستحيلة أو الخائبة: هي التي يستحيل وقوعها لعدم صلاحية وسائلها أو لانعدام موضوعها.. كمن يفصد قتل إنسان فيطلق النار عليه ثم لا تتم الجريمة لأن البندقية مكسورة الإبرة (وسيلة) أو يتبين أنه ميت من قبل (الموضوع).. واختلف القانونيين سابقا: فالبعض يرى العقوبة والبعض لا يراها.. والسائد حاليا هو المذهب الشخصي ومؤداه وجوب عقوبة الشروع متى كانت الأفعال المرتكبة تدل صراحة على غرض الفاعل وخطورته.
وهذا ما يتوافق مع أحكام الشريعة في المعاقبة على النية والقصد إن ظهرت بشكل أفعال خارجية فذلك يعد معصية ويدل على خطورة جرمية.
الاشتراك في الجريمة:
أ‌. الاشتراك بالمباشرة.. ويكون حال مساهمة الجاني مع الغير في تنفيذ الركن المادي للجريمة.. أي أن كل واحد منهما يأتي بالأفعال المادية المكونة للجريمة.
ب‌. الاشتراك بالتسبب.. ويكون حال الاتفاق مع الغير على ارتكاب الجريمة أو تحريض الغير أو إعانته على ارتكابها.

شروط الاشتراك العامة: والاشتراك سواء كان مباشراً أو غير مباشر له شرطان عامان يجب توفرهما لاعتبار الاشتراك جريمة، وهذان الشرطان هما:
أولاً: أن يتعدد الجناة، فإذا لم يتعددوا فليس هناك اشتراك مباشر، ولا غير مباشر.
ثانياً: أن ينسب إلى الجناة فعل محرم معاقب عليه، فإذا لم يكن الفعل المنسوب إليهم معاقباً عليه فليس هناك جريمة وبالتالي لا اشتراك.

الاشتراك المباشر:
اشتراك المباشرين: الأصل أن هذا النوع من الاشتراك يوجد في حالة تعدد الجناة الذين يباشرون ركن الجريمة المادي، وهو ما نسميه اليوم بتعدد الفاعلين الأصليين أو اشتراك أكثر من فاعل أصلي في الجريمة، ولكن الفقهاء يلحقون هذا النوع من الاشتراك بعض صور الاشتراك بالتسبب ويجعلون حكمها واحداً ولو أن الشريك بالتسبب لا يباشر ركن الجريمة المادي بنفسه، وعلى هذا يعتبر مباشراً للجريمة:
أولاً: من يرتكبها وحده أو مع غيره.
مسئولية المباشر في حالتي التوافق والتمالؤ: في حالة التوافق يسأل كل شريك عن نتيجة فعله فقط، أما في حالة التمالؤ فيسأل كل منهما عن الجريمة بكامل أفعالها. ولا يفرق أبو حنيفة بين التوافق والتمالؤ.
متى يعد الجاني شريكاً مباشراً؟ يعد الجاني شريكاً مباشراً كلما أتى فعلاً يعتبر به أنه بدأ في تنفيذ الجريمة.
ثانياً: يعتبر مباشراً للجريمة الشريك المتسبب إذا كان المباشر آله في يده يحركه كيف يشاء، ولا خلاف بين الفقهاء على تقرير هذا المبدأ. واعتبار الشريك بالتسبب مباشراً هي نظرية محل خلاف بين القوانين الوضعية.

عقوبة المباشرين: القاعدة عند تعدد المباشرين أن يعاقب الجاني كما لو كان ارتكب الجريمة وحده، ولا يخفى أن تقدير العقوبة ينظر فيه لاعتبارات تتعلق بصفة الفاعل والفعل والقصد...، وعليه فقد يخفف العقاب على أحد الشركاء المباشرين أو حتى يعفى منه وتسقط عقوبته (كما لو كان الأمر في حقه دفع صائل أو كان والدا أو عفا أولياء الدم عنه فقط أو كان وارثا للدم).
هل تخفف عقوبة الشريك بظروف شريكه؟ وهنا الأصل أن شريكه المباشر لا يستفيد من ذلك.. وإن وجدت تطبيقات أحيانا على خلاف القاعدة فإنما هي إعمال لقاعدة (الدرء بالشبهات).
وقد نحت القوانين الوضعية أيضا باتجاه عدم تأثر عقوبة الجاني بظروف شريكه.

الاشتراك بالتسبب: يشترط فيه:
1. وقوع فعل معاقب عليه.
2. وجود مساهمة باتفاق (التفاهم المسبق واتجاه ارادتين أو أكثر وانحادهما على ارتكاب الجريمة) أو تحريض (إغراء الجاني بارتكاب الجريمة) أو إعانة (مساعدة الجاني بأفعال لا صلة مباشرة لها بذات الفعل المجرم كمن يرقب للقاتل أو السارق).
3. أن يقصد الشريك بالتسبب من مساهمته تلك وقوع الجريمة المرتكبة بعينها.
4. وجود علاقة سببية بأن تقع الجريمة نتيجة تلك المساهمة.
عدول الشريك المتسبب: إذا عدل عن اتفاقه مع المباشر مع تقديم العون له ثم وقعت الجريمة فهنا يعفى من العقوبة لأن ما حدث منه ليس سببا في وقوع الجريمة، أما بالنسبة للتحريض فلكي يعفى من العقاب فلا بد أن يثبت حال عدوله أنه أزال كل أثر للتحريض.
يرى الإمام مالك أن حضور الشريك المتسبب للجريمة يقلبه شريكاً مباشراً بحيث أنها إذا لم تنفذ باشرها هو.
الاشتراك السلبي:
لا يمكن إن يتصور الاشتراك السلبي عن طريق الإعانة أو التحريض ويتصور عن طريق الإعانة بحيث يسكت عند رؤيتهم يسرقون أو يقتلون. فبعض الفقهاء لا يؤاخذ بذلك لعدم وجود رابطة سببية بين وقوع الجريمة وبين سكوته، والبعض يفرق بين إذا كان يستطيع منعهم فيؤاخذ أو لا يستطيع فلا يؤاخذ.

عقوبة المتسبب: الأصل في الجرائم ذات العقوبة المقدرة شرعا أنها مقررة للمباشر لا المتسبب، ولكن قد يعاقب المتسبب بها أيضا إن كان المباشر كالآلة في يده، وعند مالك في عقوبة القصاص يعتبر المتسبب إن حضر التنفيذ يعاقب بعقوبة المباشر ذاتها، أما في الجرائم التعزيرية فتحتمل الأمرين فقد تلحق بالحدود في عدم التسوية بين المباشر والمتسبب، وقد يكون المجال فيها متسع بحسب المصلحة وبحيث قد يتساويا أو حتى تحكم الظروف بالتغليظ على المتسبب.


مدى التأثر بظروف الشريك المباشر:
قد تتأثر عقوبة المتسبب تخفيفاً أو تغليظاً بالظروف التي تؤثر في عقوبة شريكه المباشر (من صفة الفعل والفاعل والقصد) كما تقدم وقد لا تتأثر فمجال التعزير متسع بحسب المصلحة، على أن في جرائم الحدود خصوصية كما تقدم.
موقف القوانين:
القوانين الوضعية تتفق في الشريعة في مفهوم الاشتراك بالتسبب وشروطه ووسائله، وجعلت بعض القوانين عقوبة المتسبب أقل من المباشر وهو ما يتفق مع موقف الشريعة بالنسبة للحدود، وبعضها ساوى بين الاثنين وهو ما لا يتعارض مع موقف الشريعة بالنسبة للتعازير، أما نظرة الشريعة في استفادة المتسبب من ظروف المباشر فقد قررتها أيضا بعض القوانين.
وتوافق بعض القوانين الشريعةَ في العقاب على الاتفاق والتحريض بشكل مستقل سواء تمت الجريمة أم لم تتم وتخالفها بعض القوانين. وأما الشريعة فلا تعاقب على النية مستقلة، وتوافقها القوانين نظرياً ولكن تخالفها عملياً بزيادة العقوبة إذا كان هناك سبق إصرار وترصد.
ملاحظة: يعاقب على وسائل الاشتراك ولو لم تتم الجريمة إذا كانت الوسائل جرائم تامة بحد ذاتها.

المبحث الثالث: الركن المعنوي للجريمة:
وهو ما يسمى بالمسؤولية الجنائية، ومعناها: تحمل الإنسان نتائج الأفعال المحرمة التي يرتكبها مختارا مدركا لمعانيها ونتائجها.
فهنا ثلاث أسس: اتيان فعل محرم- كون الفاعل مختارا- كون الفاعل مدركا، وفي هذا الصدد نحن أمام ركيزتين:
1. أن العقوبة العادية لا يستحقها إلا من كان مدركا مختارا من المكلفين، وإلا فلا مسؤولية جنائية وإن كان يحق للجماعة تحمي نفسها من أفعال غير المكلف بما يتناسب.
2. أن العقوبة ضرورة اجتماعية لحماية المجتمع وحفظ النظام فتقدر بما يتناسب بحيث (1) تكفي لتأديب الجاني (2) وزجر غيره (3) وعلى قدر الجريمة (4) وأن تكون عامة لا يعفى منها أحد لمركزه أو شخصه.
وفي القوانين: استقرت تقريبا على ذات المعنى للمسؤولية ونفس الأسس المتقدمة.. وإن كانت من قبل مختلفة:
- المذهب المادي: ساد قبل الثورة الفرنسية وفكرته تحمل كل فاعل نتيجة فعله بغض النظر عن صفة الفاعل وحالته، فعوقب الأطفال والمجانين بل حتى الحيوان والأموات.
- المذهب التقليدي: بعد الثورة الفرنسية، وخلاصته لا يساءل جنائيا إلا من تمتع بالادراك والاختيار.. والانسان فقط هو من يتصف بذلك بعد سن معينة.
- المذهب الوضعي: يقوم على فكرة الجبر وخلاصته: المجرم لا يأتي الجريمة مختارا وإنما مدفوعا بعوامل وراثية وبيئية... وإنما يمكن عقابه وهو غير مختار حماية للجتمع، وتختلف العقوبة باختلاف الجاني من حيث عقليته و... .
- مذهب الاختيار النسبي: حاول التوفيق بين المذهبين السابقين.. وفكرته أن مهما الانسان كان اختياره محدودا فإن لإرادته دخل في الجريمة.. وللمشرع أن يحمي الجماعة من إجرام الذين يمتنع عقابهم لانعدام الإدراك.. وهو بذلك اقترب من موقف الشريعة.

معنى المسؤولية الجنائية: هو مساءلة الفاعل على فعله، ولا بد أن يكون الفاعل للفعل المحرم إنساناً حياً بالغاً عاقلاً مدركاً مختاراً.
معاقبة الشخصية المعنوية: هي في الشريعة أهل لتملك الحقوق والتصرف فيها.. كالمدارس والمستشفيات.. لكنها في ذاتها غير أهل للمسؤولية الجنائية لأن مبناها الادراك والاختيار.. وإن جاز معاقبة القائمين عليها جنائيا، وكذا اتخاذ بعض التدابير بحق الشخصية المعنوية كالحل والمصادرة والهدم أو الحد من نشاطها متى ما كان في ذلك حماية للمجتمع والنظام.
شخصية المسؤولية الجنائية: القاعدة (ولا تزر وازرة وزر أخرى) ولا يؤخذ الرجل بجريرة أبيه ولا بجريرة أخيه.. ولا استثناء في الشريعة إلا ما يتعلق بالعاقلة في دية الخطأ وشبه العمد.. وأساس ذلك: تحقيق العدالة المطلقة بين الناس.. فهي موازنة بين فعل ارتكب غير مقصود من الفاعل ودم أهدر.. والبعض يقول ليست بعقوبة (ومن ثم لا استثناء) وإنما تقريرها على العاقلة من باب المواساة والتكافل.
القوانين: سابقا كانت العقوبة تتعدى المجرم إلى أسرته و أصدقائه، ثم استقرت بعد الثورة الفرنسية على شخصية العقوبة كمبدأ عام وإن كان خرجت عنه في حالات، كمسؤولية مدبر التجمهر عن أي جريمة يرتكبها أحد المتجمهرين، ومسؤولية رئيس التحرير، وأصحاب المحلات العمومية عما يرتكب فيها دون علمهم..
المجني عليه: هو من وقعت عليه الجريمة في نفسه أو ماله أو حق من حقوقه.. ولا يشترط لأن يكون مختارا أو مدركا وإنما فقط أن يكون شخصا – ولو معنويا – أهلا لاكتساب الحقوق.
يحتمل أن يكون الانسان مجنيا عليه قبل ولادته كما في الاجهاض، كما يتصور بعد الوفاة في صورتين: الاعتداء على رفات الأموت و قذف الأموات... وتقارب القوانين أو تكاد تطابق الشريعة فيما تقدم بشأن المجني عليه.

سبب المسؤولية الجنائية: هو المعصية بارتكاب ما حرمته الشريعة أو ترك ما أوجبته (شروطها: الادراك والاختيار).. والتعبير الشرعي هنا (المعصية) أدق من التعبير القانوني (الخطأ) لكون الأخير قد يختلط مع الخطأ عكس العمد.
درجات المسؤولية: تتعدد بحسب تنوع العصيان وتعدد درجاته:
1. العمد بأن يقصد الجاني إتيان الفعل المحظور، وللعمد في القتل معنى خاص عند جمهور الفقهاء: هو أن يقصد الجاني الفعل القاتل ويقصد نتيجته.
2. شبه العمد (في القتل وما دونه لدى غير مالك) بأن يقصد الجاني بفعله عدوانا دون أن تتجه نيته للقتل.
3. الخطأ بأن يأتي الجاني فعله لكنه يخطئ في الفعل (يرمي طائر فيصيب انسانا) أو في القصد ( يرمي يظنه طائرا).
4. ما جرى مجرى الخطأ بأن لا يقصد إحداث النتيجة لكنها تحصل نتيجة تقصير أو إهمال (تنقلب على نائم).
وفي القانون سبب المسؤولية هو ارتكاب الجرائم، وشرطها كذلك: الادراك والاختيار.. ولا مسؤولية ما لم يكن هناك خطأ.. والخطأ درجات بإهمال وخطأ بسيط.. ويدخل تحت العمد ما يدخل في الشريعة تحت العمد وشبه العمد، والباقي فتحت غير العمدي.
القصد الجنائي: أو قصد العصيان هو اتجاه نية الفاعل إلى الفعل أو الترك مع علمه بالتحريم (العصيان هو فعل المعصية بإتيان الفعل المحرم أو الامتناع عن الفعل الواجب)
هل يعتد بالقصد السابق على الفعل؟
القوانين الوضعية تفرق في بعض الجرائم بين عقوبة العمد المصحوب بسبق الإصرار والترصد وبين العمد المجرد.. أما العبرة في الشريعة فقط في القصد المقترن، ولا يصح تشديد العقاب على القصد السابق لأنه من حديث النفس والوسوسة قبل حصول الفعل.
ما أثر الباعث؟
الباعث هو الدافع للجاني على المعصية وهو بذلك مغاير للقصد الجنائي.. والأصل في الشريعة أنه غير مؤثر على تكوين الجريمة ولا عقوبتها في الحدود والقصاص.. أما في التعازير فبابها واسع ومن ثم فقد يكون لها أثر في تخفيف العقوبة أو تشديدها بحسب المصلحة التي يقدرها القاضي.. والقوانين كذلك تفرق بين الباعث والقصد الجنائي وهي في الغالب تهمل الكلام عن الباعث نظريا.. ولكن ذلك لا يمنع المحكمة من مراعاته في الجرائم عند تقدير عقوباتها (الفرق أن الشريعة في الجرائم الخطير –الحدود والقصاص- لم تجعل للباعث فيها أثراً).

أنواع القصد: ينقسم إلى:
· قصد عام يتوفر بتعمد ارتكاب الجريمة عالما بها/ قصد خاص لبعض الجرائم كتعمد نتيجة معينة أو ضرر خاص كتملك المال في السرقة ونية إزهاق الروح في القتل.
· قصد معين يتوفر إذا قصد الجاني ارتكاب فعله على شخص أو أشخاص معينين/ قصد غير معين إذا قصد شخص أو أشخاص غير معينين (كمن يطلق كلبا عقورا ليؤذي من يصادفه). هل يكون القصد غير المعين تعمدا؟ الأصل في الشريعة أنه كالمعين من حيث التكييف والمسؤولية وإن اختلفوا هل يعتبر قاتلا متعمدا لم يكن قصده معينا؟ الشافعية يعتبر شبه عمد/ المالكية/ إن كان مباشرا فتعمد وإن كان بالتسبب فخطأ/ الحنفية والحنابلة يعدونه عمداً. القانون: توجه بعدم التفرقة بينهما/ وتوجه آخر يعتبر الجاني مخطئا في ذلك (يسموه قصد محدود وغير محدود).
· قصد مباشر يتحقق إذا ارتكب الجاني الفعل وهو يعلم نتائجه ويقصدها/ قصد غير مباشر (احتمالي) ويتحقق إذا قصد فعلا معينا فترتب عليه نتائج لم يقصدها.
آراء الفقهاء في القصد الاحتمالي:
· المالكية: أن العبرة بقصد العدوان فمتى كان موجوداً فلا عبرة بالقصد الخاص (وهو قصد النتيجة) فإن القتل مثلاً إما أن يكون عمداً إن توفر قصد العدوان وإما أن يكون خطأ إن لم يكن ثمة قصد.
· الأحناف: لا يرون القصد الاحتمالي في القتل العمد، ويرون التفريق بين القتل وغيره، ففي القتل لا بد من القصد الخاص وهو قصد النتيجة لكي يكون عمداً، وإلا كان شبه عمد. وأما في غير القتل فإنه لا حاجة للقصد الخاص فهو مسؤول عن كل ما جنت يداه.
· الشافعية والحنابلة: يرون التفريق كالأحناف، ولكنهم يخالفونهم في أن ما دون القتل يسأل الجاني عن ما قصده أو ما يؤدي إليه الفعل غالباً ولو لم يقصده كمن وضع اصبعه في عين إنسان ففقئت فإنه يسأل عنها كعمد لأنه نتيجة متوقعة للفعل ولو زعم أنه لم يقصد النتيجة. وأما إن كانت النتيجة لم تقصد ولم يكن الفعل يؤدي إليها غالباً فهي شبه عمد. فمن صفع إنساناً ففقد بصره فلا يعد عمداً لأن الصفع لا يؤدي إلى فقدان البصر عادة.
· لا يخرج القانون عن الآراء الثلاثة هذه سواء تبنى أحدها كاملة أو خلط بينها.

أثر الجهل والخطأ في المسؤولية:
الجهل: من المبادئ الأولية في الشريعة الإسلامية أن الجاني لا يؤاخذ على الفعل المحرم إلا إذا كان عالماً علماً تاماً بتحريمه، فإذا جهل التحريم ارتفعت عنه المسئولية. ويكفي في العلم بالتحريم إمكانه، فمتى بلغ الإنسان عاقلاً وكان ميسراً له أن يعلم ما حرم عليه: إما برجوعه للنصوص الموجبة للتحريم، وإما بسؤال أهل الذكر، اعتبر عالماً بالأفعال المحرمة، ولم يكن له أن يعتذر بالجهل أو يحتج بعدم العلم، ولهذا يقول الفقهاء: ((لا يقبل في دار الإسلام العذر بجهل الأحكام)).
الخطأ: الأصل عدم محاسبة المخطئ، لكن يفرق بين الفعل المباح في حال والمحرم في حال أخرى فلا عقوبة كالفرق بين من يزني وبين من تزف له امرأة بالخطأ فلا عقوبة مطلقاً، وبين الفعل المحرم مطلقاً في كل حال فإن المخطئ يعاقب بعقوبة المخطئ.
أنواع الخطأ: خطأ متولد عن مباح مباشرة أو تسبباً ويشترط للمساءلة التقصير أو إمكان التحرز، و خطأ غير متولد وهو كل ما عدا المتولد مباشرة أو تسبباً والخطأ فيه مفترض لا بد من إثبات عكسه.

الخطأ في الشخص والشخصية:
الخطأ في الشخص (كمن يريد قتل شخص فتحيد الرصاصة فيقتل غيره) و الخطأ في الشخصية (كمن يقتل زيداً يظنه عمراً.
واختلف فيه الفقهاء: فيراه فريق عمداً إن كان محرماً أساساً وإن كان الفعل في ظنه مباحاً فهو قتل خطأ كمن قتل شخص يظنه عدواً فتبين مسلماً، و يرى الفريق الآخر أن الخطأ في الشخص والشخصية قتل خطأ. ويفرق فريق ثالث فيرى الخطأ في الشخص خطأ سواء كان الفعل في أساسه محرماً أم لا، وفي الشخصية عمداً إن كان الفعل محرماً في أصله.

أثر الرضا في المسؤولية:
الأصل في الشرعية الإسلامية أن رضا المجني عليه بالجريمة وإذنه فيها لا يبيح الجريمة ولا يؤثر على المسئولية الجنائية إلا إذا هدم الرضا ركناً من أركان الجريمة كالسرقة والغصب مثلاً، فإن الركن الأساسي في الجريميتن هو أخذ المال على غير رغبة المجني عليه، فإذا رضي المجني عليه بأخذ المال كان الفعل مباحاً لا جريمة. وتطبقها الشريعة إلا في جرائم الاعتداء على النفس وما دونها فلا تأثير للرضا على التفصيل الآتي:
القتل: اختلف في العقوبة، فمنهم من يرى القصاص ومنهم من يرى الدية للشبهة. ويرى البعض سقوط الدية والقصاص، ويرى البعض سقوط القصاص دون الدية.
القطع والجرح: يرى البعض سقوط العقوبة، ويرى آخرون عدم سقوطها. وإن أدى القطع إلى الموت فقال البعض إنه عمد وقال آخرون لا قصاص وإنما يعزر. ويرى مالك أن لا تأثير للرضا السابق وإنما يؤثر الرضا اللاحق ويعزر، ويرى الحنابلة سقوط العقوبة.

المبارزة: إن كانت المبارزة مقصوداً بهامجرد إظهار المهارة والتفوق، ولم يقصد بها الإيذاء، فهي نوع من أنواع الفروسية التي تبيحها الشريعة، أما المبارزة المقصود بها الإيذاء أو الجرح أو القتل، فهي محرمة شرعاً؛ لأنها ليست إلا قتلاً أو جرحاً أو إيذاء، وهذه أفعال تحرمها الشريعة تحريماً قاطعاً، فمن تبارز مع آخر فقتله، فهو قاتل متعمد إذا تعمد قتله، وإذا جرحه وهو يقصد قتله فأدى الجرح لموته، فهو قاتل متعمد، أما إذا جرحه بقصد تعطيله فقط، ولم يقصد قتله، فهو جارح عمداً، فإن أدى الجرح لموته فهو قاتل شبه متعمد.

الأفعال المتصلة بالجريمة وعلاقتها بالمسؤولية الجنائية:
هي ثلاثة: المباشرة والسبب والشرط:
المباشرة: هي ما أحدث الجريمة بذاته دون واسطة وكان علة للجريمة، كذبح شخص بسكين فإن الذبح يحدث الموت بذاته، وهو في الوقت نفسه علة الموت.
السبب: هو ما أحدث الجريمة لا بذاته بل بواسطة وكان علة للجريمة، كشهادة الزور على بريء بأنه قتل غيره فإنها علة للحكم على المشهود عليه بالموت ولكن الشهادة لا تحدث بذاتها الموت، وإنما يحدث الموت بواسطة فعل الجلاد الذي يتولى تنفيذ حكم القاضي الذي صدر بالموت.
ونستطيع أن نفرق بين المباشرة والسبب بأن المباشرة تولد الجريمة دون واسطة، وأن السبب يولد المباشرة أو هو واسطة لتولد المباشرة التي تتولد عنها الجريمة.
والسبب ثلاثة أنواع:
(أ) سبب حسي: وهو ما يولد المباشرة توليداً محسوساً مدركاً لا شك فيه ولا خلاف عليه سواء كان السبب معنوياً أو مادياً، كالإكراه على القتل والجرح فإنه يولد في المكره داعية القتل والجرح دون شك. .
(ب) سبب شرعي: وهو ما يولد المباشرة توليداً شرعياً؛ أي أساسه النصوص الشرعية، كشهادة الزور بالقتل والسرقة فإنها تولد في القاضي داعية الحكم بالموت على القاتل والقطع على السارق.
(ج) سبب عرفي: وهو ما يولد المباشرة توليداً عرفياً لا حسياً ولا شرعياً، كترك الطعام المسموم في متناول الضيف، وكالقتل بوسيلة معنوية مثل الترويع والتخويف والسحر. ويدخل تحت السبب العرفي الأسباب الحسية التي بعدت فأصبحت مشكوكاً فيها أو مختلفاً عليها، ومثل ذلك إشعال نار في مسكن شخص بقصد قتله، فإن إشعال النار سبب محسوس للموت إذا مات المجني عليه محترقاً، ولكن إذا أنقذ المجني عليه ووضع في مستشفى لعلاجه فانهدم المستشفى على المجني عليه ومات تحت الأنقاض، فإن إشعال النار يصبح سبباً للموت مشكوكاً فيه أو مختلفاً عليه، وينقلب إلى سبب عرفي. والسبب العرفي قد يكون مادياً وقد يكون معنوياً، ويسمى السبب بالعرفي لأن حد السببية في النوع هو الحد المتعارف عليه، أي ما أقره عرف الناس وقبلته عقولهم([2]).



حكم المباشرة والتسبب:
صاحب المباشرة والتسبب فكلاهما مسئول عن فعله؛ لأنه علة للجريمة ولا يمكن أن تحدث الجريمة بدونه، على أن الأمر في تحديد المسئولية يدق إذا كان المجني عليه قادراً على دفع أثر فعل المباشر والمتسبب، وقد وضع بعض الفقهاء القواعد الآتية لحكم هذه الحالة:
أولاً: إذا كان الفعل مؤدياً بطبيعته للجريمة والدفع غير موثوق به، فإن المباشر أو المتسبب يسأل عن الجريمة، ولا عبرة بسكوت المجني عليه عن دفع الفعل أو إهماله في ذلك.
ثانياً: إذا كان الفعل لا يؤدي بطبيعته للجريمة وكان الدفع موثوقاً به فلم يدفع المجني عليه الفعل، ففي هذ الحالة يسأل الجاني عن الفعل فقط ولا يسأل عن النتيجة التي ترتبت عليه؛ لأن الفعل لم يُحدِث النتيجة ولم يكن علة لها، وإنما الذي أحدثها هو عدم الدفع من جهة المجني عليه، مثل أن يلقي شخص بآخر في ماء قليل لا يغرق، فيبقى هذا الآخر مستلقياً في الماء حى يدركه النوم أو حتى تتصلب أطرافه من البرد فيغرق، وفي هذه المسألة خلاف لكن فريقاً يرى المسؤولية عن الفعل والنتيجة وفريقاً يرى المسؤولية عن الفعل فحسب.

الشرط: هو ما لا يُحدِث الجريمة ولكنه علة لها، لأن وجوده جعل فعلاً آخر محدثاً للجريمة وعلة لها. ومثل ذلك أن يلقي إنسان آخر في بئر حفره ثالث لغير غرض القتل فيموت الثاني، فإن ما أحدث الموت وكان علة له هو الإلقاء في البئر لا حفر البئر، ولكن الإلقاء ما كان يمكن أن يكون له أثره الذي حدث لولا وجود البئر، فوجود البئر شرط لجريمة القتل التي وقعت بواسطة الإلقاء في البئر.
حكم الشرط: صاحب الشرط لا مسئولية عليه ما دام لم يقصد بفعله التدخل في الجريمة أو تسهيلها أو الإعانة عليها؛ لأن فعله لم يحدث الجريمة ولم يكن علة لها، فإن قصد المساعدة أو التسهيل فهو مسؤول.

الفرق بين مسئولية المباشر ومسئولية المتسبب:
- أن المباشر يقام عليه الحد في جرائم الحدود ولكن المتسبب يعزر فقط.
- جرائم القصاص عقوبتها على المباشر والمتسبب معاً عند مالك والشافعي وأحمد؛ لأن هذه الجرائم تقع غالباً بطريق التسبب فلو قصرت عقوبتها على المباشر فقط لتعطلت نصوص القصاص لإمكان الجاني أن يعدل عن طريق المباشرة إلى طريق التسبب ولكن أبا حنيفة لا يسوي بين عقوبة القتل العمد المباشر والقتل العمد بالتسبب مع أنه يعتبر الفعل في الحالين قتلاً عمداً، وهو يخصص عقوبة القصاص للقاتل المباشر ويدرأها عن القاتل المتسبب.
- في جرائم التعزير لا فرق بين عقوبة المباشر والمتسبب، فالعقوبات المقررة لهما واحدة. ولكن هذا لا يقتضي التسوية بينهما في نوع العقوبة التي توقع على كليهما ومقدار هذه العقوبة.
اجتماع المباشرة والتسبب: إذا اجتمع سبب ومباشرة فلا يخرج الأمر في تحديد مسئولية المتسبب والمباشر عن حالة من ثلاث:
الأولى: أن يغلب السبب المباشرة: ويتغلب السبب على المباشرة إذا لم تكن المباشرة عدواناً، وفي هذه الحالة تكون المسئولية على المتسبب دون المباشر، كقتل المحكوم عليه بالإعدام بناء على شهادة الزور.
الثانية: أن تغلب المباشرة السبب: وتتغلب المباشرة على السبب إذا قطعت عمله، كمن ألقى إنساناً في ماء بقصد إغراقه فخنقه آخر كان يسبح في الماء فالمسئول هو المباشر وعليه وحده القصاص، أما المتسبب فيعزر على فعله فقط ولا يحاسب على نتيجته وهي الموت. ويرى البعض أن المباشرة لا تقطع عمل السبب إذا كانت السلامة من السبب غير متوقعة، كمن رمى آخر من شاهق لا يمكن أن يسلم منه فتلقاه آخر قبل أن يصل إلى الأرض وقده بالسيف، فإن السبب في هذه الحالة يعتدل مع المباشرة، ويكون كل من المباشر والمتسبب مسئولين عن القتل؛ لأن عمل كل منهما يتمم عمل الآخر، أما إذا كان السبب يسلم منه فتقطع المباشرة عمل السبب.
ويرى أبو حنيفة أن المباشرة تغلب السبب دائماً كلما اجتمعا وكانت المباشرة عدواناً، بحيث يضاف الحكم إلى المباشر دون المتسبب، وإضافة الحكم إلى المباشر دون المتسبب لا يترتب عليها إعفاء المتسبب فهو مسئول عن فعله كلما كان فعله معصية.
الثالثة: أن يعتدل السبب والمباشرة: بأن يتساوى أثرهما في إحداث الجريمة، وفي هذه الحالة يكون المتسبب والمباشر مسئولين معاً عن نتيجة الفعل، كالإكراه على القتل والأمر به؛ لأن المكره والآمر مسئولان عن القتل كما يسأل المكره والمأمور. وعند أبي حنيفة أن السبب لا يعتدل مع المباشرة أبداً؛ لأنه يضيف الحكم للمباشرة كلما اجتمعت مع سبب وكانت عدواناً.
رابطة السببية والمسئولية: ويشترط لمسئولية الجاني عن الجريمة التي تنسب إليه أن تكون ناشئة عن فعله، وأن يكون بين الفعل الذي أتاه والنتيجة التي يسأل عنها رابطة السببية.
وقد لا يصعب القول بوجود رابطة السببية بين فعل الجاني ونتيجته، إذا كان فعل الجاني مباشرة لاتصال الفعل بالنتيجة اتصالاً مباشراً. أما إذا كان فعل الجاني سبباً فقد يصعب في كثير من الأحوال القول بوجود رابطة السببية بين الفعل والنتيجة حيث لا يتصل الفعل اتصالاً مباشراً بنتيجته، وتتجلى هذه المصاعب كلما تعددت العلل المؤدية للنتيجة، فساعد بعضها عمل البعض، أو قطع بعضها عمل البعض، وكلما بعدت النتائج وتوالدت الأسباب بينها وبين الأفعال كالتالي:
تعدد العلل المسببة للنتيجة: القاعدة أن الجاني يسأل عن نتيجة فعله إذا كان فعله وحده هو علة النتيجة، أو كان لفعله إذا نظر إليه منفرداً عن غيره دخل في إحداث النتيجة، فمن أحدث بآخر جرحاً قاتلاً بقصد فتله فأدى الجرح للموت فهو مسئول عن القتل العمد، وإذا كان بالمجني عليه إصابات قاتلة من قبل فأحدث به الجاني إصابة أخرى قاتلة فمات منها جميعاً، فالجاني مسئول عن القتل العمد، ولو أن الموت نتيجة لكل هذه الإصابات، ويستوي أن تكون الإصابات التي كانت بالمجني عليه ناشئة عن فعله هو كما لو جرح نفسه، أو عن فعل غيره كما لو ضربه إنسان أو نهشه حيوان.
انقطاع فعل الجاني: ويسأل الجاني عن نتيجة فعله ما لم ينقطع فعل الجاني بفعل آخر يتغلب عليه ويقطع عمله، ففي هذه الحالة يسأل الجاني عن الفعل دون نتيجته، فمن يجرح إنساناً جرحاً قاتلاً بقصد قتله يعتبر قاتلاً لا عمداً إذا كات من الجرح، ولكن إذا جاء ثالث فقطع رقبة الجريح فهو قاتل، والأول جارح لا قاتل؛ لأن فعله انقطع عمله وانقضى أثره بفعل الثالث.
توالد العلل والمسببات: ومثل ذلك أن يحدث الجاني بالمجني عليه جرحاً بقصد قتله فينقل المجني عليه إلى المستشفى فيحدث حريق بالمستشفى يموت فيه المجني عليه، فهل يسأل الجاني عن الموت باعتبار أن الجرح الذي أحدثه سبب نقل المجني عليه إلى المستشفى، وأن النقل تولد عنه موت المجني عليه محترقاً، أم يسأل الجاني عن الجرح فقط؟
لحل هذه الصعوبات يفرق الفقهاء بين الثلاثة أنواع من العلل والأسباب:
أولها: العلل والأسباب الحسية: فكلما كان فعل الجاني علة محسوسة ومدركة للنتيجة فهو مسئول عن النتيجة، كإشعال النار في بيت المجني عليه بقصد قتله، حتى إذا ما استيقظ كانت النار قد احاطت به فلم يستطيع النجاة ومات محترقاً.
ثانيها: العلل والأسباب الشرعية: يتحمل الجاني نتيجته التي ترتبها عليه النصوص مهما بعدت النتائج وضعفت صلة السببية بين النتائج والفعل.
ثالثها:العلل والأسباب العرفية: وهي كل علة أو سبب لا يولد النتائج توليداً حسياً ولا شرعياً، ويدخل تحت هذا النوع من العلل كل ما لا يدخل تحت النوعين السابقين. وتنسب العلة أو السبب إلى العرف؛ لأن حد السببية هو الحد المتعارف عليه؛ أي ما أقره عرف الناس وقبلته عقولهم. وحكم هذا النوع من العلل أن الجاني يتحمل النتائج مهما توالدت العلل والأسباب، إذا كان العرف يقضي بمسئولية هذه النتائج، أما إذا كان العرف يمنع من مسئوليته عن النتائج فلا يسأل عنها، فمثلاً لو خرق شخص قارباً يركبه المجني عليه بقصد إغراقه في لجة لا نجاة منها فلما أشرف القارب على الغرق ألقى المجني عليه بنفسه في الماء سابحاً فالتقمه حوت، فإن الجاني يسأل عن القتل ولو أن فعل الجاني وهو خرق القارب لم يكن العلة أو السبب المباشر المؤدي للموت بل كان علة لغرق القارب، و كان غرق القارب علة لإلقاء المجني عليه بنفسه في الماء، وكانت هذه العلة الأخيرة علة لالتهام الحوت له، وهذه العلة الأخيرة هي التي أدت مباشرة للموت.
أسباب ارتفاع المسؤولية:
أولا: أسباب الإباحة (استعمال الحق وأداء الواجب).
- الدفاع الشرعي: سواء بمعناه الخاص: (دفع الصائل: اتفقوا على أن الدفع عن العرض واجب، واختلفوا فيما سواه؛ هل هو واجب أم حق؟ يشترط: وجد اعتداء/ حالّ/ لايمكن دفعه بطريق آخر/ ويدفعه بالقوة اللازمة). أو العام: (الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يشترط في الآمر: مكلف/مؤمن/عدل/قادر/ وهل يشترط إذن ولي الأمر، الصحيح عدمه إلا في التغيير باليد؟- ويشترط في الأمر نفسه: وجود منكر/ في الحال/ ظاهر/ دفعه بأيسر الطرق.).
وسائل دفع المنكر: التعريف "التعليم"، والنهي بالنصح والوعظ، والتعنيف "عند الضرورة وألا ينطق إلا بالصدق"، والتغيير باليد، والتهديد بالضرب والقتل، وإيقاع الضرب والقتل، والاستعانة بالغير. وكلها لها استثناءات.
- التأديب: سواء للزوجة أو الصغار على فعل المحرمات التي لا حد فيها.
- التطبيب وما يلحق به: وذلك لوجود الإذن ولوجود قصد الإصلاح ما لم يفرط أو يتعد ويشترط لعدم الضمان: أن يكون الفاعل طبيباً، أن يأتي الفعل بقصد العلاج وبحسن نية، أن يعمل طبقاً للأصول الطبية، أن يأذن له المريض أو من يقوم مقامه كالولي.
- ألعاب الفروسية ونحوها من الرياضة: إن كانت اللعبة غير عنيفة ولم يتعمد ولم يهمل فلا ضمان، وإن تعمد فهو ضامن، وإن أهمل فهو ضامن. وأما الألعاب العنيفة فلا ضمان فيها إلا بالتعمد.
- إهدار الأشخاص: بزوال العصمة وبشرط ثبوت ذلك كله ثبوتاً سواء قبل القتل أو بعده فإن لم يثبت فإنه قتل عمد يقاد به، ويشترط فيها أن تكون العقوبة لها مقدرة وأن تكون العقوبة متلفة وإلا فلا هدر. والمهدرون هم: (1) الحربي، (2) المرتد. (3) الزاني المحصن، (4) المحارب إن كانت العقوبة على التخيير وإن كانت على الترتيب فليس مهدراً إلا في حالات، (5) الباغي، (6) من عليه القصاص للمجني عليه أو وليه فقط (7) السارق.
- حقوق الحاكم واستعمال سلطته المشروعة: فإن من يؤدي عملاً بحكم وظيفته ويظن أن فعله مباح فهو غير مسؤول عنه كمن ينفذ القصاص أو نحو ذلك. ولكن إن علم أن فعله محرم فهو مسؤول.

ثانيا: أسباب رفع العقوبة بسبب الفاعل:
- الإكراه: نوعان: ملجئ (شروطه: أن يكون ضاراً بشدة، تهديد بأمر حال، أن يكون المكرِه قادراًر على تحقيق وعيده، أن يغلب على ظن المكرَه تنفيذ التهديد)، وهو لا يرفع المسؤولية في القتل أو القطع أو الضرب المهلك، ويرفعها في غيرها كالمحرمات المباحة حال الإكراه كأكل الميتة ونحوها مع بقاء المسؤولية المدنية. وغير ملجئ، فغير الملجئ لا يرفع المسؤولية مطلقاً.
- الضرورة: وتلحق بالإكراه وتفترق في أنه ليس هناك آمر مكرِه. ويشترط فيها: أن تكون ملجئة، حالّة، أ توجد وسيلة لدفع الضرورة إلا بارتكاب الجريمة، أن يكون ارتكاب الجريمة بقدر الضرورة. ولا تؤثر الضرورة على القتل والقطع. وتؤثر في إباحة محرمات المطاعم والمشارب والسرقة وإتلاف مال الغير وتبقى المسؤولية المدنية.
- السكر: فمن سكر بأمر مباح أو دون علمه أو بإكراه أو اضطراراً فإنه غير مسؤول جنائياً ولكنه مسؤول مدنياً، وأما من سكر باختياره فلا ترتفع المسؤولية مطلقاً.
- الجنون: فالمجنون جنوناً مطبقاً أو جزئياً وكذا الجنون الجزئي فإنه أثناء الجنون غير مسؤول جنائياً عما لا يدركه ولكنه مسؤول مدنياً. ويلحق المعتوه بالمجنون متى ضعف إدراكه جداً، وكذا المصروع والمريض النفسي الذي لا يدرك فعله وكذا من يتحرك في نومه. وأما ناقص التمييز فإنه لا يعفى من العقوبة. وأما الأصم والأبكم فإنه إن كانت إعاقتهما سبباً لعدم الإدراك فلا مسؤولية وإلا فهم مسؤولون.
الجنون اللاحق للجريمة فإن كان بعد المحاكمة فلا يؤثر إلا في الحدود إن كان الدليل ضده الإثبات فقط، وإن كان قبل المحاكمة ففيه خلاف.
- صغر السن: له ثلاث مراحل: انعدام الإدراك 0-7 سنوات (لا مسؤولية جنائية) ضعف الإدراك: 7- البلوغ (مسؤولية تأديبية لا مسؤولية جنائية) مرحلة كمال الإدراك: بعد البلوغ (مسؤولية كاملة).

أحكام متفرقة في العقوبات
تعدد العقوبات :
تعدد العقوبات وتعدد الجرائم: تتعدد العقوبات كلما تعددت الجرائم, وتتعدد الجرائم كلما ارتكب شخص جرائم متعددة قبل الحكم عليه نهائيا في واحدة منها, وهذا هو المعنى الفني للتعدد.
أنواع تعدد الجرائم:
(أ‌) التعدد الصوري.. وذلك إذا ارتكب الجاني فعلا واحدا يدخل تحته صور شرعية مختلفة , ويحدث ذلك كلما انطبق على الفعل أكثر من نص واحد, كضرب الموظف أثناء تأدية وظيفته, فالفعل يمكن أن يكون ضربا ويمكن أن يكون مقاومة وتعديا.. فكل واحد منها جريمة مستقلة في القانون.
(ب‌) التعدد الحقيقي.. وذلك إذا ارتكب الجاني أفعالا متعددة يكون كل واحد منها جريمة مستقلة.
الفرق بين تعدد العقوبات وبين العود:
في تعدد العقوبات يرتكب الجاني عدة جرائم قبل أن يحكم عليه في إحداها. أما في العود فيرتكب الجاني جريمته الثانية بعد أن يعاقب على جريمته الأولى.. ويقضي المنطق بأن لا يعاقب المجرم في حالة تعدد الجرائم على كل جرائمه من حيث أنه عندما عاد لارتكاب الجرائم لم يكن عوقب على أية جريمة سابقة وأخذ درسا عنها, فهو يختلف من هذه الوجهة عن العائد الذي سبق عقابه وأنذر بهذا العقاب أن يسلك سلوكا مستقيما.
القوانين الوضعية والتعدد: توجد عدة طرق:
الأولى:طريقة الجمع: بأن يوقع على الجاني مجموع العقوبات المقررة لكل الجرائم التي ارتكبها.. وعيب هذه الطريقة الإفراط في العقاب؛ لأن الجمع بين العقوبات قد يؤدي إلى أن تبلغ العقوبة حدا مفرطا في الشدة.
الثانية: طريقة الجب: بأن تقضي العقوبة الأشد على غيرها من العقوبات.. وعيب هذه الطريقة التهاون والتفريط, فمن يرتكب جريمة خطيرة يكون في حل من ارتكاب الجرائم الأبسط منها طالما أنه لم يعاقب على جريمته الخطيرة.
الثالثة: الطريقة المختلطة: تعني بالجمع بين الطريقتين الأوليين فتجيز الجمع بين العقوبات على أن لا يجاوز مجموعها حدا معينا, وتعيين الحد الأقصى للعقوبة قصد منه منع الإفراط في العقاب, وهي تعالج طريقة الجب بتشديد العقوبة الواحدة التي يحكم بها.. ويلاحظ أن أكثر التشريعات الوضعية الحديثة قد أخذت مؤخرا بالطريقة الأخيرة، وسابقا كانت العقوبات تتعدد بصفة مطلقة دون أي قيد.
الشريعة والتعدد:
عرفت الشريعة من يوم وجودها نظرية تعدد العقوبات ولكنها لم تأخذ بها على إطلاقها, وإنما قيدتها بنظريتين أخريين, الأولى: هي نظرية التداخل, والثانية: هي نظرية الجب.
نظرية التداخل: ومؤداها أنه إذا تعددت الجرائم وكانت من نوع واحد (كسرقات متعددة، وزنا متكرر) فإن عقوباتها تتداخل، ويعاقب الجاني بعقوبة واحدة ما دام لم ينفذ فيه العقاب المقرر (العبرة بالتنفيذ لا الحكم).
أما عند تعدد الجرائم واختلافها في النوع فهنا ينظر، فإن كان الغرض من العقوبة واحدا أي أنها وضعت شرعا لحماية مصلحة واحدة (كما لو أكل خنزير وميتة ودم) فإنها أيضا تتداخل ويعاقب عقوبة واحدة.. وإلا فإن كانت أغراض متعددة وراء تلك العقوبات (سرقة وقذف) فهنا لا تتداخل العقوبات بل تتعدد بتعدد الجريمة.
تعليل مبدأ التداخل: العقوبة شرعت بقصد التأديب والزجر, فعقوبة واحدة تكفي لتحقيق هذا المعنى فلا حاجة إذن لتعدد العقوبات ما دام المفروض أن عقوبة واحدة تكفي لإحداث أثرها وتمنع المجرم من ارتكاب الجريمة مرة أخرى.
نظرية الجب: ومؤداها الاكتفاء بتنفيذ عقوبة واحدة بحيث يمتنع بتنفيذها تنفيذ العقوبات الأخرى , ولا ينطبق هذا المعنى إلا على عقوبة القتل, فإن تنفيذها يمنع بالضرورة من تنفيذ غيرها, ومن ثم فهي العقوبة الوحيدة التي تجب ما عداها.
ولم يتفق الفقهاء على تقرير نظرية الجب:
مالك: يرى أن كل حد اجتمع مع القتل لله قصاص لأحد من الناس فإنه لا يقام مع القتل, والقتل يجبّ جميع ذلك إلا الفرية (أي القذف) فإن حد الفرية يقام عليه ثم يقتل, لئلا يتهم المقذوف.
أحمد وأبو حنيفة: أنه إذا اجتمعت حدود الله تعالى وفيها قتل, مثل أن سرق وزنا وهو محصن, وشرب وقتل في المحاربة, استوفى القتل وسقط سائرها. فإذا اجتمعت الحدود مع حقوق الآدميين وفيها قتل استوفى حق الآدمي ودخلت حدود الله في القتل سواء كان القتل حدا أو قصاصا, فمن قطع إصبع شخص وقذفه ثم شرب وسرق وزنا وقتل آخر فإن إصبعه تقطع قصاصا ثم يحد للقذف ثم يقتل ويسقط ما عدا ذلك.
الشافعي: فلا يعترف كما قلنا بنظرية الجب, ويرى أن تنفذ العقوبات كلها واحدة بعد أخرى ما لم يتداخل بعضها في الآخر, على أن يبدأ أولا بحق الآدميين فيما ليس فيه قتل. ثم بحق الله فيما لا قتل فيه.
مقارنة بين الشريعة والقانون:
أساس القيود الموضوعة لنظرية التعدد مشترك فيهما , فكلاهما يرى أن الجاني كان معذورا عندما ارتكب جريمته الثانية لأنه لم يكن عوقب على الأولى , وكلاهما يرى أن تعدد العقوبات دون قيد يؤدي إلى النتائج يأباها العقل ومنطق التشريع.
* إلا أن الشريعة جاءت أدق منطقا من القوانين الوضعية في تطبيق نظرية التعدد وتقييد هذه النظرية , ونجد هذه الدقة متمثلة في تطبيق نظرية التداخل حيث لم تطبقها على إطلاقها بل طبقتها في حالة الجريمة الواحدة إذا تكرر وقوعها, وفي الجرائم المختلفة التي يجمع بين عقوباتها غرض واحد, أما القوانين الوضعية التي أخذت بالتداخل تجعل عدم العقاب في جريمة ما عذرا للجاني في ارتكاب أية جريمة أخرى سواء كانت الجريمتان من نوع واحد أو من نوعين مختلفين.
* نظرية التداخل في الشريعة أوسع مدى منها في القانون الوضعي؛ لأن القانون لا يعرف التداخل إلا في حالة واحدة فقط هي ارتكاب الجاني عدة جرائم لغرض واحد وبشرط أن تكون هذه الجرائم مرتبطة ارتباطا لا يقبل التجزئة.
* أن القوانين جعلت حدا أعلى للعقوبات لا يصح أن تتعداه بحال مهما تعددت, ولم تضع الشريعة مثل هذه القاعدة , والضرورة وحدها هي التي أوجدت هذه القيد في القوانين الوضعية ؛ لأن العقوبة الأساسية في القوانين هي الحبس بأنواعه المختلفة، فلو لم يوضع حد أعلى لمدة العقوبة في حالة التعدد لاستحالت العقوبات المؤقتة عند التعدد إلى عقوبات مؤبدة, أما في الشريعة الإسلامية فالعقوبات الأساسية هي القطع والجلد وهي عقوبات مؤقتة بطبيعتها ومن ثم لم يكن هناك ما يدعو للحد الأعلى.
* وإذا كانت الشريعة تتفق مع القانون في تقرير نظرية الجب فإنهما يختلفان في مدى تطبيقها. ففي الشريعة لا تطبق نظرية الجب إلا إذا اجتمعت عقوبة القتل مع عقوبات أخرى على التفصيل الذي سبق ذكره, أما في القانون فتطبق نظرية الجب في هذه الحالة وفي حالة اجتماع عقوبة الأشغال الشاقة مع عقوبة أخرى مقيدة للحرية. وعقوبة الحبس ليست عقوبة أساسية في الشريعة.

العود:
العود هو حالة الشخص الذي يرتكب جريمة بعد أخرى حكم فيها نهائيا، أي أن العود ينشأ عن تكرار وقوع الجرائم من شخص واحد بعد الحكم نهائيا عليه في إحداها أو بعضها.
ويتميز العود عن تعدد الجرائم بأن المجرم في حالة التعدد يرتكب جريمته الأخيرة قبل أن يصدر عليه حكم في جريمة سابقة عليها، أما في العود فيكون المجرم حين ارتكب جريمته الأخيرة قد صدر عليه حكم أو أكثر.
وعود المجرم للإجرام بعد الحكم عليه دليل على أن المجرم يصر على الإجرام، وعلى أن العقوبة الأولى لم تردعه، ومن ثم فقد كان من المعقول أن يتجه التفكير إلى تشديد العقوبة على العائد، ولقد كانت فكرة التشديد تلقى فيما مضى مقاومة من بعض شراح القوانين الوضعية، أما اليوم فليس ثمة من ينازع في مشروعية العقاب على العود.
وشراح القوانين وإن كانوا يسلمون بالعقوبة على العود، إلا أنهم اختلفوا في تقرير المبادئ التي يقوم عليها العود، فالبعض يرى أن يكون العود خاصا، بمعنى أن لا يعتبر المجرم عائدا إلا إذا كانت الجريمة الثانية من نوع الجريمة الأولى أو مماثلة لها، فإن لم تكن الجريمة الثانية كذلك فلا يعتبر المجرم عائدا.
ويرى البعض أن يكون العود عاما بحيث يعتبر المجرم عائدا إذا ارتكب جريمته الثانية، سواء كانت من نوع الأولى أو من نوع آخر مماثلة لها أو غير مماثلة.
كذلك اختلف الشراح في مدة العود، فرأى البعض أن يكون العود مؤبدا بحيث يعتبر المجرم عائدا مهما مضى من الزمن على جريمته الأولى، ورأى البعض أن يكون العود مؤقتا بمعنى أنه إذا مضى وقت معين على الجريمة الأولى فلا يعتبر المجرم عائدا إذا ارتكب جريمته الثانية.
هذه هي القواعد العامة التي يقوم عليها العود في القوانين الوضعية الحديثة , ويلاحظ أن القوانين الوضعية لم تعرف قواعد العود إلا أخيرا, وأن المبادئ التي وضعتها للعود والاعتياد على الإجرام تعتبر من أحدث المبادئ في هذه القوانين.
الشريعة والعود: من المتفق عليه في الشريعة أن يعاقب المجرم بالعقوبة المقررة للجريمة , فإن عاد لها أمكن تشديد العقوبة , فإن اعتاد الإجرام استؤصل من الجماعة بقتله أو بكف شره عنها بتخليده في الحبس, واختيار إحدى العقوبتين متروك لولي الأمر بحسب ما يراه من ظروف الجريمة وأثرها على الجماعة. ومن الأمثلة على ذلك اللواطة لغير المحصن فالفاعل والمفعول به يعاقب كلاهما بالعقوبة المقررة للجريمة , فإن اعتاد الجريمة ولم تردعه العقوبة قتل لشناعة جريمته ولما تؤدي إليه من التقاليد وإفساد الأخلاق والتخنث. والسارق إذا اعتاد السرقة يعاقب على الاعتياد بتخليده في الحبس حتى يموت أو تظهر توبته.
وقد أقرت الشريعة مبدأ العود على لإطلاقه, ومن ثم يجوز أن يكون العود عاما وخاصا وأبديا ومؤقتا, والأمر في ذلك متروك لولي الأمر يضع من القواعد ما يراه محققا للمصلحة العامة.

استيفاء العقوبات :
من له حق الاستيفاء:
أولا: الاستيفاء في جرائم الحدود: بالاتفاق أنه لا يجوز أن يقيم الحد –أي العقوبات المقررة لجرائم الحدود- إلا الإمام أو نائبه؛ لأن الحد حق الله تعالى ومشروع لصالح الجماعة فوجب تفويضه إلى نائب الجماعة وهو الإمام، ولأن الحد يفتقر إلى الاجتهاد ولا يؤمن في استيفائه من الحيف والزيادة على الواجب، فوجب تركه لولي الأمر يقيمه إن شاء بنفسه أو بواسطة نائبه.
ولو أقامه غيره من الأفراد فإن مقيمه لا يسأل عن إقامته إذا كان الحد متلفا للنفس أو للطرف؛ أي إذا كان الحد قتلا أو قطعا، وإنما يسأل باعتباره مفتاتا على السلطات العامة. أما إذا كان الحد غير متلف كالجلد في الزنا والقذف فإن مقيمه يسأل عن إقامته؛ أي أنه يسأل عن الضرب والجرح وما يتخلف عنهما.
والفرق بين هاتين الحالتين أن ارتكاب الحد المتلف للنفس أو الطرف يزيل عصمة النفس وعصمة الطرف، بخلاف الحد غير المتلف فلا يزيل العصمة.
ثانيا: الاستيفاء في جرائم التعازير: من حق ولي الأمر أو نائبه أيضا؛ لأن العقوبة شرعت لحماية الجماعة فيترك استيفاؤها لنائب الجماعة، ولأن التعزير كالحد يفتقر إلى الاجتهاد ولا يؤمن فيه الحيف.
وليس لأحد غير الإمام أو نائبه إقامة عقوبة التعزير ولو كانت متلفة للنفس لإمكانية العفو من ولي الأمر.
ثالثا: الاستيفاء في جرائم القصاص: والأصل إقامتها لأولي الأمر، لكن أجيز استثناء أن يستوفى القصاص بمعرفة ولي الدم أو المجني عليه، قال تعالى:"ومن قتل مظلوما فقد جعلنا لوليه سلطانا فلا يسرف في القتل" بشرط أن يكون تحت إشراف السلطان لأنه لا يؤمن فيه الحيف.. واختلفوا فيما لوكان القصاص فيما دون النفس.
كيفية استيفاء القصاص في النفس: لا يستوفى القصاص في النفس إلا بالسيف عند أبي حنيفة ورواية عن أحمد، مهما كانت طريقة القتل لحديث: ((لا قود إلا بالسيف)). وعند مالك والشافعي وهو رواية عن أحمد أن القاتل يفعل به كما فعل؛ لقوله تعالى:"فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم" وقصة اليهودي الذي رض رأس الجارية.. ما لم يكن القتل بمحرم كسقي خمر. وفي الاستيفاء بغير السيف مما هو أسرع خلاف.

أسباب سقوط العقوبات :
(1) موت الجاني (2) فوات محل القصاص (3) توبه الجاني.
(4) الصلح (5) العفو (6) إرث القصاص (7) التقادم.
موت الجاني: تسقط العقوبات بموت الجاني إذا كانت بدنية متعلقة بشخصه لأن محل العقوبة هو الجاني ولا يتصور تنفيذها بعد انعدام محلها.. أما إذا كانت العقوبة مالية كالدية فلا تسقط بموت الجاني؛ لأن محل العقوبة مال الجاني لا شخصه ومن الممكن تنفيذ العقوبة على مال الجاني بعد موته.
وقد اختلف الفقهاء فيما إذا كان سقوط عقوبة القصاص بموت الجاني يوجب الدية في ماله أو لا ؟
مالك وأبو حنيفة: لا تجب الدية في ماله.. والشافعي وأحمد: تجب، ومبنى الخلاف هو ما الواجب بالعمد هل القصاص عينا أم أحد أمرين: القصاص أو الدية.
ملاحظة: إذا قتل الجاني ظلما فيرى مالك أن القصاص لأولياء المقتول الأول, فمن قتل رجلا فعدا عليه أجنبي فقتله عمدا فدمه لأولياء المقتول الأول, ويقال لأولياء المقتول الثاني: ارضوا أولياء المقتول الأول وشأنكم بقاتل وليكم في القتل أو العفو, فإن لم يرضوهم فلأولياء المقتول الأول قتله أو العفو عنه, ولهم ذلك إن لم يرضوا بما بذلوا لهم من الدية أو أكثر منها, وإن قتل خطأ فديته لأولياء المقتول الأول.
ويسوي أبو حنيفة بين الموت بحق والموت بغير حق فكلاهما يسقط حق القصاص سقوطا مطلقا ولا يوجب الدية في مال الجاني ولا في مال غيره إذا جنى عليه.
ويرى الشافعي وأحمد أن فوات محل القصاص يسقط عقوبة القصاص في كل الأحوال سواء كان الموت بحق أو بغير حق, ولكنه يؤدي إلى وجوب الدية في مال الجاني؛ لأن الواجب بالقتل عندهما أحد شيئين غير عين القصاص والدية , فإذا تعذر أحدهما لفوات محله وجب الآخر, ولأن ما ضمن بسببين على سبيل البدل إذا تعذر أحدهما ثبت الآخر.
ونستطيع أن نتبين مدى الخلاف بين الفقهاء في مثل الآتي: إذا قتل زيد عليا فإن لأولياء على حق القصاص على زيد, فإذا مرض زيد ومات سقط القصاص بموته ولا شيء لأوليائه طبقا لرأي مالك وأبي حنيفة , ولأوليائه الدية في مال زيد طبقا لرأي الشافعي وأحمد. فإذا كان موت زيد راجعا إلى أن خالدا قتله عمدا أو صدمه بسيارته خطأ فقتله فقد سقط حق القصاص ولا شيء لأولياء علي في رأي أبو حنيفة , أما طبقا لرأي مالك فحق القصاص ينتقل إلى خالد ولأولياء علي أن يقتصوا منه في حالة العمد, وليس لأولياء زيد أن يقتصوا من خالد إلا إذا أرضوا أولياء علي, وفي حالة الخطأ يدفع خالد دية زيد لأولياء علي. وطبقا لرأي الشافعي وأحمد يسقط القصاص بموت زيد ويكون لأولياء علي الدية في مال زيد.
فوات محل القصاص: المقصود بالقصاص هنا القصاص فيما دون النفس. ومعنى فوات محل القصاص أن يذهب العضو المحل القصاص مع بقاء الجاني حيا, ففوات محل القصاص سبب مسقط لعقوبة القصاص دون النفس فقط.
والأصل أن محل القصاص فيما دون النفس هو العضو المماثل لمحل الجناية , فإذا فات محل القصاص سقط القصاص؛ لأن محله انعدم ولا يتصور وجود الشيء مع انعدام محله.
وإذا سقط القصاص بحق لم يجب للمجني عليه شيء عند مالك, لأن حق المجني عليه في القصاص عيني فإذا سقط القصاص فقد سقط حق المجني عليه, أما إذا فات محل القصاص بظلم فإن حق القصاص ينتقل إلى الظالم, على التفصيل الذي سبق بيانه في حالة موت القاتل.
وأبو حنيفة - وهو من القائلين بأن موجب العمد هو القصاص عينا- يفرق بين ما إذا فات محل القصاص بآفة أو مرض أو ظلما, وبين فواته بحق كتنفيذ عقوبة أو استيفاء قصاص. وفي الحالة الأولى يرى أن المجني عليه لا يجب له شيء بفوات محل القصاص, أما في الحالة الثانية فيرى أن المجني عليه تجب له الدية بدلا من القصاص؛ لأن الجاني قضى بالطرف أو الجارحة التي فاتت حقا مستحقا عليه.
ويرى الشافعي وأحمد أن للمجني عليه إذا ذهب محل القصاص أن يأخذ الدية أيا كان سبب ذهاب محل القصاص, لأن موجب العمد عندهما أحد شيئين غير عين القصاص والدية , فإذا ذهب محل القصاص تعينت الدية موجبا.
توبة الجاني: بالاتفاق التوبة تسقط عقوبة جريمة الحرابة "إلا الذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم" وذلك فيما يتعلق بحقوق الجماعة, أما العقوبات المقررة على الأفعال الماسة بحقوق الأفراد فلا تسقطها التوبة.
وإذا كان الفقهاء قد اتفقوا على أن التوبة تسقط العقوبة المقررة لجريمة الحرابة إذا حدثت التوبة قبل القدرة على المحارب فإنهم قد اختلفوا في أثر التوبة على ما عدا هذه الجريمة من حدود خالصة لله، فالجمهور على أنها لا تسقط، والبعض قال بسقوطها.
الصلح: ولا خلاف بين الفقهاء في أن القصاص يسقط بالصلح وكذا الدية, ويصح أن يكون الصلح عن القصاص بأكثر من الدية وبقدرها وبأقل منها. والأصل في الصلح السنة والإجماع. ففي الحديث (من قتل عمدا دفع إلى أولياء المقتول فإن شاءوا قتلوا وإن شاءوا أخذوا الدية , وما صولحوا عليه فهو لهم), وفي عهد معاوية قتل هدبة بن خشرم قتيلا فبذل سعيد بن العاص والحسن والحسين لابن المقتول سبع ديات ليعفو عنه فأبي ذلك وقتله.
العفو: لا أثر له في جرائم الحدود, لأن ما كان حقا لله امتنع العفو فيه أو إسقاطه. وتجيز الشريعة للمجني عليه أو ولي دمه أن يعفو عن عقوبتي القصاص والدية، وليس للسلطان أن يعفو في جرائم القصاص والدية عن العقوبات المقدرة كالقصاص والكفارة , وله ذلك عن التعزير "فمن عفي له من أخيه شيء فإتباع بالمعروف وأداء إليه بإحسان" وعن أنس قال: ((ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم رفع إليه شيء من قصاص إلا أمر فيه بالعفو)).
ملاحظة: العفو عند مالك وأبي حنيفة – خلافا للشافعي وأحمد - هو إسقاط القصاص مجانا, أما التنازل عن القصاص مقابل الدية فهو ليس عفوا وإنما هو صلح؛ لأن الجاني لا يلزم بالدية إلا إذا قبلها، حيث إن الواجب بالعمد - عندهما - هو القصاص عينا؛ أما الشافعي وأحمد فالواجب بالعمد لديهما هو أحد أمرين والخيار للمجني عليه أو وليه دون حاجة لرضاء الجاني.
العفو في جرائم التعازير: من المتفق عليه بين الفقهاء أو لولي الأمر حق العفو كاملا في جرائم التعازير, فله أن يعفو عن الجريمة وله أن يعفو عن العقوبة كلها أو بعضها, ولكنهم اختلفوا فيما إذا كان لولي الأمر حق العفو في كل جرائم التعازير أو في بعضها دون البعض الآخر.. فالبعض يرى أن عفوه لا يصح فيما شرع فيه الحد أو القصاص لكن سقط لشبهة ونحوها.
وإذا عفا ولي الأمر في جرائم التعازير عن الجريمة أو العقوبة فإن عفوه لا يؤثر بأي حال على حقوق المجني عليه. كما للمجني عليه في جرائم التعازير أن يعفو عما يمس شخصه كما في الضرب والشتم, ولكن عفوه لا يؤثر على حق الجماعة.
إرث القصاص: تسقط عقوبة القصاص إذا ورث القصاص من ليس له أن يقتص من الجاني, كما تسقط العقوبة إذا ورث الجاني نفسه كل القصاص أو بعضه, كما لو كان في ورثة المقتول ولد للقاتل فلا قصاص؛ لأن القصاص لا يتجزأ.. وإذا قتل أحد ولدين أباه ثم مات غير القاتل ولا وارث له إلا القاتل فقد ورث القاتل دم نفسه كله ووجب القصاص لنفسه على نفسه فيسقط القصاص.
التقادم: التقادم المقصود هو مضي فترة معينة من الزمن على الحكم بالعقوبة دون أن تنفذ فيمتنع بمضي هذه الفترة تنفيذ العقوبة في كثير من التشريعات الوضعية.. وأكثر الفقهاء لا يسلمون به، إذ لا دليل صريح يؤيده.. لكن هناك تفصيل في مذهب الحنفية، حيث يشترط لقبول الشهادة في الحدودة المحضة لله تعالى (خلافا للقذف) ألا تكون الجريمة قد تقادمت، حيث ذلك يؤدي إلى الشك في شهادتهم، فإن الشاهد إذا سكت عن الجريمة حتى قدم العهد عليها دل ذلك على اختياره جهة الستر, فإذا شهد بعد ذلك فإن هذه الشهادة المتأخرة دليل على أن ضغينة ما هي التي حملته على الشهادة فلم تقبل. وقد روى عن عمر ( أيما قوم شهدوا على حد لم يشهدوا عند حضرته- أي عند وقوعه- فإنما شهدوا عن ضغن) وفي الحديث(لا تقبل شهادة خصم ولا ظنين).. وبعد أن قال الحنفية بالتقادم في الجريمة قالوا به في العقوبة ؛ لأن القاعدة عندهم أن الإمضاء من القضاء؛ أي أن التنفيذ متمم للقضاء, فوجب أن يتوفر عند التنفيذ ما يتوفر عند الحكم, لكن لم يقدر أبو حنيفة للتقادم حدا وفوض الأمر فيه للقاضي، وقدره محمد بستة أشهر, وذكر عنه أنه قدره بشهر, وهو رواية عن أبي حنيفة وأبي يوسف.
ويلاحظ أنهم اشترطوا لصحة الإقرار بشرب المسكر أن تكون بالمقر ما يدل عليه من رائحة ونحوها.. فإذا تقادم الأمر حتى زال ذلك فلا يقبل الاقرار.
أما فيما يتعلق بالتعازير فالقول بسقوطها بالتقادم مما يحتمل ألا يختلف فيه لأن مبنى الأمر فيها هو المصلحة حسبما يقدرها ولي الأمر.. والله أعلم.
[1]. ملاحظة: الاتفاق على الجريمة أو التحريض أو الإعانة هي جريمة مستقلة سواء وقعت تلك الجريمة أم لم تقع.. لأن الشريعة تحرم الأمر أو التعاون على المنكر.. والقاعدة: ما أدى إلى المحرم فهو محرم.. والمبدأ في القوانين الوضعية هو عدم المعاقبة على الاتفاق أو التحريض... إلا إذا وقعت الجرائم المقصودة.. وإن كان بعضها قد عاقب على الاتفاقات الجنائية بمجردها.
([2] ) نهاية المحتاج ج7 ص340، الوجيز للغزالي ص122 وما بعدها، أسنى المطالب ج4 ص4.

ما يناط بالأئمة والولاة من أحكام الإسلام

ما يناط بالأئمة والولاة من أحكام الإسلام
نظر الإمام في أصول الدين:
القسم الأول: حفظ الدين ودفع شبهات الزائغين:
بم يزعُ من يزيغ عن المنهج المستقيم والدين القويم؟ إن كان رِدَّةً استتابه وإلا قتله، والقول وإن تاب واتهمه الإمام بالاتقاءِ مع الانطواء على نقيض ما أظهره من التوبة ففيه تفصيل يرد.
وإن كان ما صار إليه الناجِمُ بدعة لا تبلغُ مبلغَ الردة فينحتم على الإمام المبالغةُ في منعه ودفعه، وبذل كنه المجهود في ردعه ووزعه.
فإن لم تكن البدعةُ رِدَّةً وأصرَّ عليها منتحُلها، فبماذا يدفعُ الإمام غائلتَه؟ سيرد.
هذا كله إذا أخذت البدع تبدو، وأمكن قطعُها، فأما إذا شاعت الأهواء وذاعت، فإن استمكن الإمام من منعهم لم يأل في منعهم جهداً، فإن لم يتمكن من دفعهم إلا بقتال واعتناق أهوال، فسنذكر ذلك فإن قتال من ابتدع في أصول الدين أهم ممن منع زكاته وهي فرع من فروع الدين.
إن تفاقم الأمر ولم يستطع منعهم وكانوا سيقاتلونه فإنه يكف عنهم مع الحرص على صرامته وتربص الدوائر واجتثاث الأكابر وحسم المدد حتى إذا وهنوا استأصلهم.
إن انتهى الأمر إلى اتفاقهم على الإمام، وخروجهم عن الطاعة، فنذكر ذلك.
أما اختلاف العلماء في فروع الشريعة، فعليه درج السلفُ الصالحون، فلا ينبغي أن يتعرض الإمام لفقهاء الإسلام فيما يتنازعون فيه من تفاصيل الأحكام، بل يُقِرُّ كلَّ إمام ومتبعيه على مذهبهم، ولا يصدهم عن مسلكهم ومطلبهم.
فإن قيل: فما الحق الذي يحمل الإمام الخلقَ عليه في الاعتقاد إذا تمكن منه؟ إن الذي يحرص الإمام فيه جمعُ عامة الخلق على مذاهب السلف السابقين؛ قبل أن نبغت الأهواء. فإن أمكن حملُ العوام على ذلك فهو الأسلم، ولما قال رسول الله  (ستفترق أمتي ثلاثاً وسبعين فرقة، الناجي منها واحدةٌ) فاستوصفه الحاضرون الفرقةَ الناجية فقال: هم الذين كانوا على ما أنا عليه وأصحابي.
إن انبثت في البرية البدع، واحتوت على الشبهات أحناء الصدور، ونشر دعاةُ الضلالة أعلامَ الشرور، فالوجه والحالة هذه أن يَبُثَّ فيهم دعاةَ الحقِّ، حتى يسعوا في إزاحة الشبهات بالحجج والبينات، فيجتمع انحسام كلام الزائغين، وظهورُ دعوة الموحدين.
وهذه التفاصيل من أحق ما يتعين على الإمام الاعتناءُ به، وقد يختلف نظرُه في البلاد على حسب تباين أحوال العباد، فيرى في بعضها الحملَ على مذاهب السابقين، وفي بعضها حملَ دعاة الحق على إبداء مسالك الصدق.
القسم الثاني في أصل الدين: السعي في دعاء الكافرين إليه:
للدعاء إلى الدين مسلكان: أحدهما: الحجةُ وإيضاح المحجة والثاني: الاقتهارُ بغِرار السيوف. والمسلك الثاني مرتب على الأول؛ فإن بلغ الإمام تشوّفُهم إلى قبول الحق لو وجدوا مرشدا، أرسل إليهم عالماً فَطِناً لبيباً، بارعاً أريباً، متهدِّياً أديباً، رفيقاً ملِقا شفيقاً، خرّاجاً ولاّجاً، جَدِلاً مِحْجاجاً، عطوفاً رحيماً رؤوفاً. فإن لم تنجح الدعوة، قاتلهم وسيرد الكلام على القتال.
نظر الإمام في فروع الدين:
فأما العبادات البدنية، فلا تتعلق صحتها بنظر الإمام، وإذا أقامها المتعبدون على شرائطها وأركانها في أوقاتها وأوانها، صحت ووقعت موقعَ الاعتداد باستثناء الجمعة.
فإن قيل: ما وجه ارتباط العبادات بنظر الإمام؟ قلنا: ما كان منها شعاراً ظاهراً في الإسلام، تعلق به نظر الإمام. وذلك ينقسم إلى:
أولاً: ما يرتبط باجتماع عدد كثير كالجُمَعِ والأعياد والحج، فلا ينبغي للإمام أن يغفل عنه؛ فإن الناس إذا كثروا عظُم الزحام، وجمع المجمَعُ أَخْيافاً؛ وأَلَّفَ أصنافاً ـ خيف في مزدحم القوم أمورٌ محذورة ويكلف من يقوم بالحراسة وإمامة الحجيج.
ثانياً: ما لا يتعلق باجتماع، كالأذان وعَقْد الجماعات في ما عدا الجمعة من الصلوات، فإن عطل أهلُ ناحية الأذان والجماعات، تعرض لهم الإمام، وحملهم على إقامة الشعار، فإن أبوا ففي العلماء من يُسَوِّغ للسلطان أن يحملهم عليه بالسيف، ومنهم من لم يجوّز ذلك. والمسألة مجتهدٌ فيها، وتفصيلها موكول إلى الفقهاء. فأما ما لم يكن شعاراً ظاهراً من العبادات البدنية، فلا يظهر تطرقُ الإمام إليه إلا أن تُرفع إليه واقعةٌ فيرى فيها رأيَه. مثل أن يُنهيَ إليه أن شخصاً ترك صلاة متعمداً من غير عذر، وامتنع عن قضائها. فقد نرى قتله على رأي الشافعي رضي الله عنه، وتعذيبه وحبسه على رأي الآخرين.
نظر الإمام في الأمور المتعلقة بالدنيا:
الأموال التي تمتد يد الإمام:
أولاً: ما يتعين مصارفه: كالزكاة، وأربعةُ أخماس الفيء، وأربعة أخماس خمس الفيء، وأربعة أخماس الغنيمة، وأربعة أخماس خُمس الغنيمة.
ثانياً: ما لا تتعين مصارفه: كخُمس خمسِ الفيء، وخُمس خمسِ الغنيمة؛ وينضم إليها تركةُ من مات من المسلمين، ولم يخلف وارثاً خاصًّا، وكذلك الأموال الضائعة التي أُيس من معرفة مالكيها كما سنذكرها.
نظر الإمام في أمور الدنيا:
طلب ما لم يحصل:
فأما الجهاد فيتعلق به أمر كُلِّيٌّ، فإن الله ابتعث محمداً  إلى الثقلين، وحتم على المستقلين بأعباء شريعته دعوتين: إحداهما: الدعوة المقرونة بالأدلة والبراهين، والمقصدُ منها إزالة الشبهات، وإيضاح البينات والدعاءِ إلى الحق بأوضح الدلالات. والأخرى: الدعوةُ القهريَّة المؤيدةُ بالسيف المسلول على المارقين الذين أبَوا واستكبروا بعد وضوح الحق المبين. فأما البراهين فقد ظهرت ولاحت ومُهدت، والكفار بعد شيوعها في رتب المعاندين؛ فيجب وضع السيف فيهم، حتى لا يبقى عليها إلا مسلم أو مسالم.
قال بعضهم: الجهاد من فروض الأعيان في حق الإمام لأنه بإمامته صار نائباً عن المسلمين أجمعين فكأن شخص المسلمين اجتمعت في شخصه، ومن فروض الكفايات للرعية؛ ثم قالوا: يجب أن ينتهض إلى كل صوب من أصواب بلاد الكفر في الأقطار عند الاقتدار عسكرٌ جرّار في السنة مرة واحدة، وزعموا أن الفرض يسقط بذلك. (والصحيح أنهم جروا على العادة والعرف من صعوبة أكثر من ذلك، لكن إن كثر الجنود والقوة وجب الاستدامة)
وهذا عندي ذُهولٌ عن التحصيل؛ فيجب إدامةُ الدعوة القهرية فيهم على حسب الإمكان، ولا يتخصص ذلك بأمَدٍ معلوم بالزمان، فإن اتفق جهادٌ في جهةٍ، ثم صادف الإمام من أهل تلك الناحية غِرَّةً واستمكن من فُرصة، وتيسر إنهاضُ عسكرٍ إليهم، تعين على الإمام أن يفعل ذلك.
ولو استشعر من رجال المسلمين ضعفاً، ورأى أن يهادن الكفارَ عشرَ سنين، ساغَ ذلك ؛ فالمتبع في ذلك الإمكان، لا الزمان.
يجب الإحاطة أن معظمَ فروض الكفاية مما لا يتخصص بإقامتها الأئمة، بل يجب على كافة أهل الإمكان أن لا يغفلوه ولا يغفلوا عنه، كتجهيز الموتى ودفنهم، والصلاة عليهم، فإن بلغ الإمام أن قوماً في قطر يعطلون فرضاً من فروض الكفايات زجرهم وحملهم على القيام به.
طلب ما لم يحصل:
سد الثغور: اعتناء الإمام بسد الثغور من أهم الأمور، وذلك بتحصين الحصون والقلاع ويستظهر لها بذخائر الأطعمة، ومستنقعات المياه، واحتفارِ الخنادق، وضروب الوثائق وإعداد الأسلحة والعتاد، وآلات الصدّ والدفع، ويُرَتِّب في كل ثغر من الرجال ما يليق به. ولا ينبغي أن يكثروا فيجوعوا، أو يقلوا فيضيعوا. والمعتبر في كل ثغر أن يكون بحيث لو أمه جيش، لاستقل أهلُه بالدفاع إلى أن يبلغ خبرُهم الإمام، أو من يليه من أمراء الإسلام. وإن رأى أن يرتب في ناحيةٍ جُنداً ضخماً يستقلون بالدفع، ويشنون الغاراتِ، فيقدّم من ذلك ما يراه الأصوبَ والأصلحَ.
اجتثاث اللصوص: ليُوَكِّل الإمام بذلك قوماً فليس للصوص وقطاع الطرق مثل أن يبادَروا قبل أن يتجمعوا وتتحد كلمتهم. ثم يندُب لكل صُقع من ذوي البأس من يستقل بكفاية هذا المهمّ. وإذا نجح في ذلك فيكلأهم بعين ساهرة، وبطشةٍ قاهرة.
فصل الخصومات: فليرتب الإمام لها القضاة.
عقوبات الجماعات:
أهل البغي: فيطالبون بتقديم العذر أولا وبما ينقمون، وإسعافِهم بمناهم إن دَعَوْا إلى حق، وادّعَوْا على صدق وإبانةِ حيدهم عن سَنَن الصواب، إن عَرَتهم شائبةُ الارتياب. فإن أبوا آذنهم بحرب.
الممتنعون: كل من امتنع عن الاستسلام للإمام والإذعان لجريان الأحكام، فإن لم يكن مع الامتناع منعة وشوكة، اقتُهِر على الطاعة وموافقة الجماعة. وإن استظهر الممتنعون بشوكة دُعوا إلى الطاعة، فإن عادوا فذاك؛ وإلا صَدَمهم الإمام بشوكة تفض صَدْمَتهم، وتَفُل غَرْبَهم ومنعتَهم.
أهل البدع: إذا كثروا، فيدعوهم الإمام إلى الحق فإن أبَوْا زجرهم، ونهاهم عن إظهار البدع. فإن أصروا سطا بهم عند امتناعهم عن قبول الطاعة، وقاتلهم مقاتلة البغاة، وهذا يطرد في كل جمع يعتزون إلى أهل الإسلام، إذا سلوا أيديهم عن ربقة الطاعة.
وإن ضمنوا للإمام أن لا يظهروا البدع، وعلم الإمام أنهم سيبثون الدعوة سراً، فيحرص الإمام أن يَظْهرَ منهم على خافية، بعد تقديم الإنذار، إليهم ثم يتناهى في تعزير من كان ذلك. فإن جانبوا الائتلافَ، وتجمعوا للخروج عن ربط الطاعة، نَصَب عليهم القتالَ إذا امتنعوا، وإن علم أنهم لكثرتهم، وعِظم شوكتهم لا يطاقون. فالوجه أن يداريَ ويستنفد جهده.
اجتهاد الإمام في المسألة المظنونة: إذا أدى اجتهادَ الإمام إلى حكمٍ في مسألة مظنونة، فيتحتم عليهم متابعةُ الإمام، فإن أَبَوْا قاتلهم الإمام، كما قاتل الصديق مانعي الزكاة في القصة المعروفة، ثم قتالُه إياهم لا يعتمد ظناً، بل القتال على أمرٍ مقطوع به، وهو تحريم مخالفة الإمام في الأمر الذي دعا إليه، وإن كان أصله مظنونا، ولو لم يتعين اتباع الإمام في مسائل التحري لما تأَتى فصل الخصومات في المجتهدَات.
عقوبات آحاد الناس:
الحدود: وهي مفوضة للإمام أو نائبه، وكذا القصاص فلا يجوز استيفاؤه دون الرجوع للإمام.
التعزيرات: منها ما يكون حقاً للآدمي يسقط بإسقاطه، ويُستوفى بطلبه، ومنها ما يثبتُ حقا لله تعالى لارتباطه بسبب هو حق الله تعالى ويمكن العفو فيه لا تمنياً ولكن عملاً بالأولى والأصلح، وفي مبلغ التعزيرات خلاف، فمنهم من قال لا تبلغ الحدود ومنهم من يرى الزيادة كمالك.
رأي غبي! ذهب بعض الجهلة غباءً أن التخفيف في أول الإسلام، كان سببها قرب العهد بصفوة الإسلام، وكان يكفي في ردعهم التنبيهُ اليسير، والمقدارُ القريب من التعزير، وأما الآن فقد قست القلوب، فلو وقع الاقتصار على ما كان من العقوبات، لما استمرت السياسات. ولو جاز ذلك لساغ رجمُ من ليس محصناً إذا زنا في زمننا هذا لما تخيله هذا القائل، ولجاز القتلُ بالتهم في الأمور الخطيرة، ولساغ إهلاك من يخاف غائلته في بيضة الإسلام إذا ظهرت المخائل والعلامات، وبدت الدِّلالات، ولجاز الازدياد على مبالغ الزكوات عند ظهور الحاجات، وأما الاستدلال بزيادة حد الخمر عن أربعين، فذلك لأنها لم تكن محددة من الأساس. ويرى الجويني أن الحل الأنسب طول الحبس.
داعي الضلالة: إن نبغ في الناس داعٍ في الضلالة، وغلب على الظن أنه لا ينكف عن دعوته ونشر غائلته، فالوجه أن يمنعه وينهاه ويتوعَّدَه، فلعله ينزجر وعساه، ثم يكلُ به موثوقاً به حيث لا يشعر به ولا يراه، فإن عاد إلى ما عنه نهاه، بالغ في تعزيره، وراعى حدَّ الشرع، وتحرَّاه، ثم يُثَني عليه الوعيدَ والتهديدَ، ويبالغ في مراقبته من حيث لا يشعر، ويرشح مجهولين يجلسون إليه على هيئات متفاوتات، ويعتزُون إلى مذهبه، ويسترشدونه، ويتدرجون إلى التعلم والتلقِّي منه. فإن أبدى شيئاً أَطْلَعوا السلطان عليه؛ فيسارع إلى تأديبه والتنكيل به، وإذا تكرر عليه ذلك، أوشك أن يمتنع ويرتدع. فإن انكفَّ فهو الغرض؛ وإن تمادى في دعواته أعاد عليه السلطانُ تنكيلَه وعقوباتِه فتبلُغ العقوبات مبالغ تُربى على الحدود، وإنما يتسببُ إلى تكثير العقوبات بأن يبادرَه بالتأديب مهما عاد، وإذا تخلَّلَت العقوباتُ في أثناء موجِباتها تعددت وتجددت، فلا يبرأ جِلدُه عن تعزير وجلدات نكال، حتى تحل به عقوبة أُخرى.
موضع التهم: من آداب الدين أن لا يقف الإنسان في مواقف التهم، فالوجهُ أن يَنْهى الإمام من يتصدى لها عن ذلك على جَزْمٍ وبتٍّ، فإن عاد عاقبه على مخالفته أمرَ سلطانه، واستجرائه على والي زمانه.
توبة الزنديق: ذهبت طوائف أنه لا تُقبل توبتُه بعدما ظهرت زندقتُه لأن الذي أبداه من توبته عين مذهبه في زندقته، ويرى الجويني قبول توبته كالكافر ينطق الشهادتين في المعركة فيكف عنه ولو قالها تقية، وكذا فقد دارى النبي  المنافقين، والصحيح هو معاملته كداعي البدعة بالحبس ونحوه.
القيام على المشرفين على الضَّياع:
الولايات: فأما الولاية، فالسلطان وليُّ من لا ولي له من الأَطفال والمجانين. وهي تنقسم إلى ولاية الإنكاح وحفظ الأموال.
وسد الحاجات: وهي من أهم المهمات، ويتعلق بهذا ضربٌ من الكلام الكلي، وقد لا يُلْفى مجموعا في الفقه. فإذا وُفِّق الموسرون لأداءِ الزكوات، سدت الحاجات، وإن قُدِّرت آفةٌ وأَزْمٌ وقحط وجدب، وغلاء في الأسعار بحيث لا تكفي الزكاة فالوجه استحثاثُ الخلق بالموعظة. فإن وجد فقراءُ محتاجون لم تف الزكوات بحاجاتهم، فحقٌّ على الإمام أن يجعل الاعتناءَ بهم من أهمِّ أمرٍ في باله. فإن لم يبلغهم نظرُ الإمام وجب على ذوي اليسار البدارُ إلى رفع الضرار عنهم، وإن ضاع فقير بين ظهراني موسِرين باؤا بأعظم المآثم. ولكن لو بُلِي أهل بلدة بقحط، وعلم أنهم لو فرَّقوا ما معهم، لافتقروا افتقارهم، فلا نكلّفهم أن يُنهوا أنفسَهم إلى الضرار الناجز.
مسألتان:
الأولى: لو أن رجلين مسافرين، وبلغ أحدهما المخمصة ومع الثاني ما يبلغه العمران، فيتعين عليه أن يسد رمق رفيقه، ويكتفي ببلاغٍ يكفيه في طريقه. وأما لو كان الرفيقان في متاهات لا يدريان متى ينتهي بهما إلى العمران، فلا نكلف من معه زاد واستعداد أن يؤثر على نفسه، ويجتزئ بحاجة يومه أو وقته.
الثانية: إذا ظهر الضرر والجوع فيبقي الموسرون قوت سنة اقتداء بكون النبي  يدخر لزوجاته قوت سنة ولأنه يقرب تفرج الأمر في سنة عقلاً، ثم يصرفون الباقي إلى ذوي الضرورات.
الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يثبتُ لكافة المسلمين، برفق وعلم، ومن طبق ذلك فإنه يوشك أن يستجيب له الناس، فإن لم يطيعوا فليس له القوة ولكن لولاة الأمور.
تقويم المكاييل والموازين: يتعلق بالوالي أن يكلفَ المتهمَ بالتطفيف عرضَ ميزانه ومكياله، ولا يثبت ذلك لمن ليس مأموراً من جهة السلطان.
نجدة الإمام وعدته:
يحتاج الإمام في منصبه إلى الاعتضاد بالعَدَد والعتاد، فإنه متصدٍّ لحراسة البيضة، وحفظِ الحريم، والتشوف إلى بلاد الكفار، ولا يجوز أن يكون معولُّه المتطوعةَ الذين لا يتنشَّأون إذا نُدِبوا مبادرين؛ حتى يتأهبوا، ويستعدُّوا ويتألَّبوا، ولن تقوم الممالك إلا بجنود مجنَّدة، كما دون عمر الدواوين وجند الجند.
الأموال:
فمن الأموال المختصة بالمصارف الزكواتُ، وهي مصروفةٌ إلى الأصناف الموصوفين في كتاب الله، وسنن رسول الله  بأوصاف. ومنها أربعة أخماس الفيء. ويدخل تحته الجزية، والأخرجة عند من يراها من العلماء، وأموال المرتدين، وما ينجلي عنه الكفار من غير قتال، فأربعة أخماس ما وصفناه تختص في ظاهر المذهب بالمرتزقة والجند المترتبين في الإسلام
وأما المال العام فهو مال المصالح، وهو خُمُس خُمسِ الفيء، وخُمس خمس الغنيمة، وما يخلفُه مسلم ليس له وارث خاص، ويلتحق بالمُرْصَد للمصالح مالٌ ضائع للمسلمين قد تحقق اليأس من معرفة مالكه ومستحقِّه.
ثلاث مسائل:
المسألة الأولى: ضابط جمل المصاريف وكليتها: من يرعاه الإمام بما في يده من المال ثلاثةُ أصناف:
صنف منهم محتاجون، والإمام يبغي سدَّ حاجاتهم، وهؤلاء معظم مستحقي الزكوات وخمس الفيء.
صنف ينبغي للإمام كفايتُهم، وهؤلاء صنفان: أحدهما: الجنود، وهم نجدةُ المسلمين وعُدَّتُهم، فينبغي أن يصرف إليهم ليسدّ حاجتَهم، ويستغنوا به عن وجوه المكاسب وهذا من أربعة أخماس الفيء، و الثاني الذين انتصبوا لإقامة أركان الدين، فعلى الإمام أن يكفيهم مُؤَنَهم وهؤلاءِ هم: القضاةُ والحكامُ، والقسَّامُ والمفتون والمتفقهون، وكل من يقومُ بقاعدةٍ من قواعد الدين، يُلهيه قيامُه عمّا فيه سدادُه وقوامُه. و يُدِرُّ عليهم كفايتَهم وأرزاقَهم من سهم المصالح.
وصنف يصرف إليهم طائفة من مال بيت المال ولا يتوقف استحقاقهم على سدّ حاجة، ولا استيفاء كفاية، وهم بنو هاشم، وبنوا المطلب المسمَّوْن في كتاب الله ذا القربى، فهؤلاء يستحقون سهماً من خمس الفيء والغنيمة.
المسألة الثانية: نزف الأموال وادخارها:
الرأي الأول: نزف الأموال: ذهبت طوائفُ إلى أن الإمام إذا أوصل كل ذي حق في بيت المال حقه، ففضل في بيت المال مالٌ، فيتعين تفريقه، فأما الجنود بعد إعطائهم نصيبهم المشار له، فيجب فضّ الفاضل عليهم على أقدار أعطيتِهم وأقساطِهم. وأما الزكوات، فإن أعطي المستحقون وزالت أسباب الاستحقاق فتنقل الأموال إلى مستحقي الزكاة في ناحية أخرى فإن لم يكن ثم فتصرف في سهم المصالح، ولا يتصور انقطاع مصارف المال المرصود للمصالح ويبدأ بالأهم فالأهم، فإن نفد ما في بيت المال فأهم المصالح كفاية الجنود، وإن لم تف الزكاة بحاجات المحاويج سد الإمام حاجتهم من مال المصالح. و فاضلُ مال المصالح يبني به الرِّباطاتُ والقناطرُ والمساجدُ وغيرُها من جهات الخير. ويستدلون بفعل الخلفاء الراشدين.
رأي الجويني: الادخار حتمٌ على الإمام، وذلك لأنه يصعب الجهاد دون وجود رجال مجهزين احتياطياً، فكذلك الأموال لا بد أن تكون مرصودة محفوظة، وكيف تصرف في بناء القناطر ويترك الجند؟ وأما القول بأنه لو نفد ما بيت المال فيأخذ من الموارد التي يأخذ منها لو نفد البيت المال، فإن هذا رأي ضعيف، وأما فعل الخلفاء الراشدين فما كانت الأموال كثيرة تحتمل الادخار، في عهد أبي بكر، كما أن ما كان يجنى منها إلى الجند فلا يبقى إلا القليل في عهد عمر، وأما في عهد عثمان فلا نظن أن المال كان يوزع بل كان يدخر.
المسألة الثالثة: ما الحكم إذا صفرت يد راعي الرعية؟
إن ارتقب الإمام حصولَ أموال في الاستقبال، ضاع رجالُ القتال؛ وإن استرسل في مدّ اليد إلى ما يصادفُه من مال، من غير ضبط أفضى إلى الانحلال، والخروج عن قضايا الشرع في الأقوال والأفعال.
الرأي الأصوب: إذا خلا بيتُ المال انقسمت الأحوال إلى ثلاث:
أحدها: أن يطأَ الكفارُ ـ والعياذ بالله ـ ديارَ الإسلام: اتفق حملة الشريعة قاطبةً على أنه يتعينُ على المسلمين أن يخِفُّوا ويطيروا إلى مُدَافَعَتِهم زرافاتٍ ووحدانا فلا نهتم بالأموال ويجب على الأغنياء بذلها.
ثانيها: ألا يطأ الكفار ديار الإسلام ولكن يخشى من ذلك للانقطاع المادي: ويلحق بالقسم الأول حكماً.
ثالثها: ألا يخاف هجومهم لا عموماً ولا خصوصاً: فهل يجب على الأغنياء البذل؟ فيه خلاف، ورأي الجويني أن الإمام يكلف الأغنياء بدفع فضلات أموالهم لأن إقامة الجهاد فرض ولاحتمال غزو الكفار لنا إن تقاعسنا.
ما القول إن كان مع الجند ما يكفي ولكن خلا بيت المال أو كاد، وخاف الإمام غائلة بسبب خلو بيت المال؟ قال: لا بد من ادخار الأموال كما الرجال كما ذكر، كما أنه إن توقف الجنود عن الغزو يعني توقف نماء مصدر دخل بيت المال فلا بد من الجهاد لتنميته، وإن استمر الجهاد استمر الدخل بإذن الله فلا حاجة لأخذ أموال الناس.
كيف تؤخذ الأموال من الأغنياء؟ للناس حالتان:
إحداهما: أن يعدِموا إماما يجمع شتات الرأي، فيأثم الجميع لو عطلوا واجباً واحداً.
ثانيهما: إذا وليهم إمام مطاع، فإنه يجب طاعته فيما أمر به طائفة منهم.
قياس ذلك: فنقول: لو شغرت الأيام عن إمام ومست الحاجة في إقامة الجهاد إلى مال وعتاد، كان وجوب بذله فرض كفاية. وإن كان لهم إمام فإنه يطلب من بعض الموسرين بذل ما يحتاج إليه وإلا غلب الكفار وكانت أقل فائت هي أموال الأغنياء.
طريقة أخذ الأموال: لْيُشِرْ على أغنياء كل صُقع بأن يبذلوا من المال ما يقع به الاستقلال، ويرتب ذلك حسب الأصلح فيمكن أن يخصص أقواماً فقط ويجبرهم على الدفع أو يعين أقواماً على التنصيص كمن كثر ماله وقل عياله، أو من يطغى عند كثرة ماله، .
ما طبيعة ما يأخذه الإمام؟
الأول: إنها قرض يتعين رده، وذلك لأن النبي  كان يستقرض من الأغنياء، وربما عجل الزكاة، فلو كان يسوغ الأخذ دون اقتراض لفعله النبي ، وكذا حتى لا يتوسع الأئمة في أخذ ما في أيدي الناس.
الثاني: إن عمم على الجميع وأخذ منهم فليس قرضاً، وإن خص أقواماً فهو قرض.
الثالث: يرى الجويني أنه ليس قرضاً بل يأخذ ما تدعو له الحاجة لأنه لو لم يكن هناك إمام لكان الناس مطالبين بدفع هذه الأموال للجهاد كواجب وليست كقرض، كما أنه لو كان قرضاً فسوف يؤدي لهم القرض عند وجود فائض وربما احتاج لهذا الفائض لاحقاً فيأخذ منهم مرة أخرى وهكذا بشكل تسلسلي وهذا لا يصح. وليس معنى كلامه أن يمنع من كونه استقراضاً تطييباً للنفوس.
رد الجويني على أصحاب القولين:
وأما القول بأنه لا يلزم مالك الطعام إعطاء المضطر في المخمصة من غير بدل فكذلك هنا، فيقال إنه صحيح لو كان للمضطر مال حاضر أو غائب، أما إن لم يكن له مال فيجب إعطاؤه دون بدل.
أن النبي  كان يستقرض كما كان كذلك يدعو الأغنياء لبذل فائض أموالهم وكانوا يستجيبون.
أن القول بأن ذلك يجرئ الأئمة على الأموال، فإننا لم نقل بأنهم يأخذونه الأموال في أي وقت بل في حالة نفاد الأموال واحتمال هجوم الكفار.
إذا كثرت عساكر الإسلام، ولم تف موارد بيت المال بمؤنتهم وعدّتهم، فما الحكم؟
رأي الجويني (التوظيف على الأموال: الضرائب): لا بد من توظيف أموال على الغلات والثمرات وضروب الزوائد والفوائد من الجهات، فإن استغنى بيت المال غض الطرف عن التوظيف لعدم الحاجة إليه، و سبب القول بالتوظيف لأنه لو عُدِم والٍ لاحتاج الناس إلى حراسة بيوتهم وأموالهم أضعاف ما يبذلونه في التوظيف على الأموال.
ولا يجوز أن يأخذ من أموال الناس للتكاثر والترفيه وغيرها، كما لا يجوز أن يأخذ عقوبة للناس لاستصلاحهم. لكن لا يمنع أن يركز عليه الإمام ويأخذ منه عند الحاجة فيردعهم ذلك.
فإن قيل إن هذا لم يكن في عهد الخلفاء الراشدين. فيقال: إن عمر رضي الله عنه وظف على الخراج وأراضي العراق، والخلاف في كيفية ذلك لا في أصله.
مستخلفي الإمام:
الاستخلاف قسمان: خاص وعام.
الأمرُ الخاص:
جباية الصدقات ونحوها: فمن ولاه الإمام صنفا من هذه الأصناف، فينبغي أن يكون المُوَلَّى مستجمعاً خصلتين: الصيانة والديانة، والشهامة، ولا يشترط أن يكون مجتهداً أو مفتياً ولكن يرسم له الإمام مقادير الزكوات والأنصباء.
الجهاد: فليجتمع فيمن يقلَّدُ الأمرَ الثقةُ، والصرامةُ، والشهامةُ؛ وليكن ممن حنكته التجارب، وهذَّبَتْه المذاهب ولا يبطؤه عن الفُرص إذا أمكنت خورٌ، يطرِقُ للخُدع، عارفا بغوائل القتال محبَّباً في الجند؛ لا يُمْقَت لفرط فظاظة، مهيباً لا يُراَجَع في الدَّنِيات من غير حاجة، ثم الإمام يقدّمُ له مراسمَ في المغانم والأسرى، يتخذها وزراً وذكرى.
الأمر العام:
كالقضاء والجلوسِ لفصل الحكومات بين الخصماءِ، وقد يرتبط به أمورُ الأموالِ والأبضاعِ والدماءِ، ويشترط فيمن يتولاه الدين، والثقةُ، والأمانة والعقل الراجح، والرأي الصائب، والحريةُ والسمعُ والبصرُ، والاجتهاد على خلاف في بعضها.
ويرى الجويني القطع باشتراط الاجتهاد وذلك أن القاضي إذا كان مجتهداً، فلا شك أنه يستتبع المتحاكمين إلى مجلسه، ولا يتبعهم، فإن تكليفَه اتباعَ المخالفين على تباعد المذاهب يجرُّ تناقضاً لا سبيل إلى الوفاء به، ومنصبُ الولاية يقتضي أن يكون الوالي متبوعاً لا محالة، فلئن استتبعَ الوالي البالغُ مبلغ المجتهدين ـ المقلدين، فليس ذلك بدعا، فإنه أَبَرَّ عليهم بمنصب الولاية، ثم بالإمامة في الدين، فان استتبع مجتهداً، فالسبب فيه أنه وإن ساواه في الاجتهاد، فقد أربى عليه بالولاية، وهي تقتضي الاستيلاءَ والاستعلاءَ والاحتواءَ، على تفنُّن الآراء، وإن قلد إمام عصره فإنه يحمل المجتهدين على فتوى من يقلده وهذا باطل.
القول في خلو الزمان عن الإمام: الباب الأول: في انخرام الصفات المعتبرة في الأئمة:
النسب:
إن لم يكن هناك قرشي نصَبْنا من وجدناه عالماً كافياً ورعاً.
لو نصبنا من ليس قرشياً؛ ثم نشأَ في الزمان قرشي على الشرائط المطلوبة، فإن عَسُرَ خلعُ من ليس نسيبا أقررناه، وإن لم يتعذر خلعُه، فالوجه عندي تسليمُ الأمر إلى القرشي.
الاجتهاد، العدالة:
لو لم نجد مجتهداً، ولكن صادفنا شهما ذا نجدة وكفاية واستقلال بعظائم الأمور، على ما تقدم وصفُ الكفاية، فيتعينُ نصبه في أمور الدين والدنيا.
إن لم نجد كافيا ورعا، ووجدنا ذا كفايةٍ فاسقاً، فإن كان في انهماكه وانتهاكه الحرمات، واجترائه على المنكرات، بحيث لا يؤمن غائلتُه وعاديتُه، فلا سبيلَ إلى نصبِه، فإنه لو استظهر بالعتاد وتقوَّى بالاستعداد، لزاد ضَيْرُه على خَيْرِه، وهذا نقيضُ الغرض المقصود بنصب الأئمة، ولكن لو غُزي المسلمون وعسر قيادتهم للجهاد تحت عدل فإنهم يقادون تحت الفاسق.
لو فرض فاسقٌ يشرب الخمر، وكنا نراه حريصًا، على الذَّبِّ عن حوزة الإسلام، وكان ذا كفاية، ولم نجد غيرَه، فالظاهر نصبُه مع القيام بتقويم أَوَدِه على أقصى الإمكان.
فإن قيل: ما قولكم في قرشيّ ليس بذي دراية، ولا بذي كفاية إذا عاصره عالمٌ كافٍ تقيٌّ، فمن أولى بالأمر منهما؟ قلنا: لا نقدم إلاَّ الكافيَ التقيَّ العالمَ، ومن لا كفاية فيه، فلا احتفالَ به، ولا اعتدادَ بمكانه أصلاً.
فإن قيل: إذا اجتمع في عصرٍ ودهرٍ قرشيٌّ عالم ليس بذي كفاية واستقلال، وكاف شهمٌ مستقلٌّ بالأمر، فمن نُقدّمُ منهما؟ قلنا: إن لم يكن القرشيُّ ذا خُرقٍ وحُمق، وكان بحيث لو نُبِّهَ لمراشد الأمورِ لفهمها وأحاط بها، وعلمها، ثم انتهض لها ـ فهو أولى بالإمامة.
الباب الثاني: القولُ في ظهور مُسْتَعْدٍ بالشَّوْكة مُسْتَوْلٍ:
مقصود هذا الباب تفصيلُ القول فيمن يستبدُّ بالاستيلاءِ والاستعلاءِ من غير نصبٍ ممن يصح نصبُه، والحالة أقسام:
مستكمل الشرائط
غير مستكمل لكنه كفؤ
غير صالح ولا كفؤ
خلو الزمان من أهل الحل والعقد
وجود من يصلح من أهل الحل والعقد
وجود شخص مستجمع لشرائط الإمامة
عدم وجود شخص مستجمع لها
هو إمام حق وفي حكم العاقد والمعقود له لأنه لا وجه لتعطيل الإمامة والكفء موجود
إذا امتنع أهل الحل والعقد عن اختيار فيكون هو الإمام
إذا لم يمتنعوا، ففي توقف ثبوت الإمامة على العقد خلاف ورجح الجويني عدم الحاجة لذلك لأن الهدف هو قطع الشجار فإذا وجد من يتولى كفى، ويجب طاعته واتباعه، فإن أطاعته طائفة يقوى بهم ثبتت إمامته، وإن لم يطعه أحد أو اتبعه ضعفاء لا تقوم بهم شوكة، فيمكن القول إنه ليس إماماً لأنه كأسير، ويمكن القول إنه إمام وإن لم يطيعوه، ويجب أن يدعو إلى نفسه فإن لم يعدم من يطيعه وآثر الجلوس فهو آثم ولم يكن إماماً.
يعين إماماً والتفصيل فيه كتفصيل الحالة الأولى.
يكون إماماً ببيعة أهل الحل والعقد. وإن استولى بنفسه بالقوة فالكلام فيه كالتفصيل في حالة مستكمل الشرائط
مسائل:
لو توفرت الشروط في أكثر من واحد فاستبد بالإمامة أحدهم فلا يخلو: إن تأخروا في تنصيب أحد فتقدم هذا لرأب الصدع وقطع النزاع فهو إمام إن استظهر بالعدة ولا بد من عقد لأنه ليس لوحده، وقال البعض إن ن عسرت مدافعته فيكون إماماً دون عقد ورجح الجويني الأول.
لا يجوز عقد الإمامة لفاسق وإن كانت ثورته لحاجة ثم زالت فاستمسك بعدته محاولاً حمل الناس على بيعته ولا يجوز أن يبايع إلا إن كان ثار لحاجة وتجمع الناس حوله ولم يستطع فكاكاً منهم وكانت الفتن أقرب فيكون إماماً ولكن لا بد من البيعة.
مقاصد ذلك:
أحدها: أن القائم بهذا الأمر كالآمر بالمعروف والناهي عن المنكر وهو واجب و أن من رأى مظلوماً وجبت نصرته إن علم ذلك، فمن باب أولى الإمامة التي فيها الدفاع عن أعراض الناس وأموالهم كافة.
أن الهدف من الاختيار في الإمامة قطع الشجار، فإذا لم يكن هناك مستجمع للشروط فلا يجوز وقام شخص بالدعوة لنفسه وكان معه عدة فلا وجه لتعطيل الممالك والرعبة لأجل ذلك.
استشكال وجوابه:
إن قيل: إنما كان يستقيمُ ما ذكرتموه لو كانت الأمورُ جاريةً على سنَن السَّداد لكن الفساد موجود والتسلط موجود، فيجاب عنه: الأول: أن الأمر على خلاف كلام السائل فإن الطاعة موجودة، وأما التعدي من الجند فلم يخل منه زمان.
حكم تخلي الإمام عن منصبه:
هل يجوز تخلي الإمام عن منصبه؟
لا يحل له ذلك إذا علم أنَّه لا يخلفُه من يَسُدُّ في أمر الدين والدنيا مَسَدَّه وذلك لأن فروض الكفايات يجب أن يتولاها من تقوم الحاجة به، فكما أن من جاهد لا يجوز له تولي الأدبار بعد التقاء الصفين لئلا يؤثر على الجند وينحل العقد فكيف بالإمام؟
حكم خروج "نظام الملك" للحج:
إن كان ما صمَّمَ عليه من الحج مُتَضَمِّناً قطعَ نظرِه عن الخليقة، فهو محرَّمٌ. وقد أجمعَ المسلمون قاطبةً على أن من غَلَب على الظَّن إفضاءُ خروجِه إلى الحجِّ إلى تعرُّضه أو تعرُّضِ طوائفَ من المسلمين للغَرَرِ والخطر، لم يجز له أن يغرِّرَ بنفسِه وبذويه، ومن يتصل به ويليه، بل يتعينُ عليه تأخيرُ ما ينتحيه، إلى أن يتحقَّقَ تمامُ الاستمكان فيه وهذا في آحادِ الناس ومن يختصُّ أمرُه به، وبأَخصِّه فكيف بالإمام؟
متى يجوز لنظام الملك الحج؟
إذا أمن الطرقات وقطع المخاطر جاز له.
واجبات الإمام:
فائدة: ينفذُ من قضاءِ قاضي البغاة ما ينفذُ من قضاءِ قضاة الإمام القائمِ بأمور الإسلام وإلا لتعطَّلت أمورُ المسلمين، وبطلت قواعدُ من الدين.
وأما الواجبات فهي كالتالي:
الإحاطة بأخبار البلاد: لأن النظر في أمور الرعية مترتب عليه وذلك لأن عدم الاطلاع يفضي إلى امتداد يد الظلمة ويكثر الفساد والغش والخيانة والغلول. والحل في ذلك إيجاد زمرة من الثقات ليبلغوه بالأخبار سيئها وسارها وفق توجيهه فيخاف أهل الفساد وينضبطون.
وجوب مراجعة العلماء: فيما يأتي ويذر فهم ورثة الأنبياء، فإن كان الإمام مجتهداً فيمضي على اجتهاده ويتبعه الرعية. وإن لم يكن مجتهداً فيتبع العلماء.
التيقظ للفتنة: وخصوصاً الفتنة في الدين وما يصدر عن الزنادقة والمعطلة.
تترك باقي الواجبات لنظر الملك فما قدر عليه فهو الواجب، وما لم يستطع فلا يكلف الله نفساً إلا وسعها و "كلكم راعٍ" ولو مات على شط الفرات أو جيجون فإن الإمام هو المسؤول.
الباب الثالث: في شغور الدَّهر عن والٍ بنفسه أو متوَلٍّ بغيره:
يصعب تصور شغور الزمان عن الكفاة ومن يستحق الإمامة وذلك لأنه لا يخلو زمان من عارف بالسياسة، ولكن نفترض أن من توفرت فيه هذه الصفات مضطهد مهضوم. فكيف العمل؟
الحل: ما يسوغ استقلال الناس فيه بأنفسهم، ولكن الأدب يقتضي مراجعة ولاة الأمر، فإن الناس يتولونه عند خلو الدهر كعقد الجمع واستيفاء القصاص والجهاد والقضاء على قطاع الطرق والمفسدين حيث ينهى الناس عن شهر السلاح في أوقات السلطان، فإذا خلا الزمان عن سلطان وجب العمل على تفادي السوء ولو بالسلاح.
قال بعض العلماء، لو خلا الزمان من سلطان فواجب على سكان كل بلدة أن يقدموا حكماءهم ليلتزموا أمرهم ونهيهم.
يعتنى بأمور الولايات كتزويج الأيامى والقيام بأموال الأيتام. وأما تزويج المرأة لنفسها فمحرم على رأي طائفة من العلماء، فإن لم يكن لها ولي، وشغر الزمان عن سلطان، فيتولى أمور المناكح أحد العلماء، وذلك لأن حكم المحكم حتى في حال قيام الإمام نافذ على الصحيح، وإن عرى الزمان عن عالم فيذكر ذلك تفصيلاً في الركن الثالث من الكتاب.
كل أمر يتعاطاه الإمام في الأموال فهو مفوض إلى العلماء في حالة خلو الزمان عن إمام، فإن تعسر جمع الناس على عالم واحد، فتستقل كل ناحية بعالم، وإن كثر العلماء فالمتبع أعلمهم، فإن استووا اتفقوا على تقديم واحد منهم، فإن تنازعوا فقرعة.
فإن قيل: هلاّ جزمتَ القولَ بأن عالِم الزمان هو الوالي، وحقٌّ على ذي النجدة والباس اتباعُه، والإذعانُ لحكمه، والإقرانُ لمنصب عِلمِه؟ قلنا: إن كان العالمُ ذا كفاية فحق على ذي الكفاية العريِّ عن رتبة الاجتهاد أن يتبعَه إن تمكن منه. وإن لم يكن العالم ذا درايةٍ واستقلال بعظائم الأشغال، فذو الكفاية الوالي قطعاً، وعليه المراجعةُ والاستعلام، في مواقع الاستبهام، ومواضع الاستعجام.
1