الجمعة، 15 مايو 2009

ما يناط بالأئمة والولاة من أحكام الإسلام

ما يناط بالأئمة والولاة من أحكام الإسلام
نظر الإمام في أصول الدين:
القسم الأول: حفظ الدين ودفع شبهات الزائغين:
بم يزعُ من يزيغ عن المنهج المستقيم والدين القويم؟ إن كان رِدَّةً استتابه وإلا قتله، والقول وإن تاب واتهمه الإمام بالاتقاءِ مع الانطواء على نقيض ما أظهره من التوبة ففيه تفصيل يرد.
وإن كان ما صار إليه الناجِمُ بدعة لا تبلغُ مبلغَ الردة فينحتم على الإمام المبالغةُ في منعه ودفعه، وبذل كنه المجهود في ردعه ووزعه.
فإن لم تكن البدعةُ رِدَّةً وأصرَّ عليها منتحُلها، فبماذا يدفعُ الإمام غائلتَه؟ سيرد.
هذا كله إذا أخذت البدع تبدو، وأمكن قطعُها، فأما إذا شاعت الأهواء وذاعت، فإن استمكن الإمام من منعهم لم يأل في منعهم جهداً، فإن لم يتمكن من دفعهم إلا بقتال واعتناق أهوال، فسنذكر ذلك فإن قتال من ابتدع في أصول الدين أهم ممن منع زكاته وهي فرع من فروع الدين.
إن تفاقم الأمر ولم يستطع منعهم وكانوا سيقاتلونه فإنه يكف عنهم مع الحرص على صرامته وتربص الدوائر واجتثاث الأكابر وحسم المدد حتى إذا وهنوا استأصلهم.
إن انتهى الأمر إلى اتفاقهم على الإمام، وخروجهم عن الطاعة، فنذكر ذلك.
أما اختلاف العلماء في فروع الشريعة، فعليه درج السلفُ الصالحون، فلا ينبغي أن يتعرض الإمام لفقهاء الإسلام فيما يتنازعون فيه من تفاصيل الأحكام، بل يُقِرُّ كلَّ إمام ومتبعيه على مذهبهم، ولا يصدهم عن مسلكهم ومطلبهم.
فإن قيل: فما الحق الذي يحمل الإمام الخلقَ عليه في الاعتقاد إذا تمكن منه؟ إن الذي يحرص الإمام فيه جمعُ عامة الخلق على مذاهب السلف السابقين؛ قبل أن نبغت الأهواء. فإن أمكن حملُ العوام على ذلك فهو الأسلم، ولما قال رسول الله  (ستفترق أمتي ثلاثاً وسبعين فرقة، الناجي منها واحدةٌ) فاستوصفه الحاضرون الفرقةَ الناجية فقال: هم الذين كانوا على ما أنا عليه وأصحابي.
إن انبثت في البرية البدع، واحتوت على الشبهات أحناء الصدور، ونشر دعاةُ الضلالة أعلامَ الشرور، فالوجه والحالة هذه أن يَبُثَّ فيهم دعاةَ الحقِّ، حتى يسعوا في إزاحة الشبهات بالحجج والبينات، فيجتمع انحسام كلام الزائغين، وظهورُ دعوة الموحدين.
وهذه التفاصيل من أحق ما يتعين على الإمام الاعتناءُ به، وقد يختلف نظرُه في البلاد على حسب تباين أحوال العباد، فيرى في بعضها الحملَ على مذاهب السابقين، وفي بعضها حملَ دعاة الحق على إبداء مسالك الصدق.
القسم الثاني في أصل الدين: السعي في دعاء الكافرين إليه:
للدعاء إلى الدين مسلكان: أحدهما: الحجةُ وإيضاح المحجة والثاني: الاقتهارُ بغِرار السيوف. والمسلك الثاني مرتب على الأول؛ فإن بلغ الإمام تشوّفُهم إلى قبول الحق لو وجدوا مرشدا، أرسل إليهم عالماً فَطِناً لبيباً، بارعاً أريباً، متهدِّياً أديباً، رفيقاً ملِقا شفيقاً، خرّاجاً ولاّجاً، جَدِلاً مِحْجاجاً، عطوفاً رحيماً رؤوفاً. فإن لم تنجح الدعوة، قاتلهم وسيرد الكلام على القتال.
نظر الإمام في فروع الدين:
فأما العبادات البدنية، فلا تتعلق صحتها بنظر الإمام، وإذا أقامها المتعبدون على شرائطها وأركانها في أوقاتها وأوانها، صحت ووقعت موقعَ الاعتداد باستثناء الجمعة.
فإن قيل: ما وجه ارتباط العبادات بنظر الإمام؟ قلنا: ما كان منها شعاراً ظاهراً في الإسلام، تعلق به نظر الإمام. وذلك ينقسم إلى:
أولاً: ما يرتبط باجتماع عدد كثير كالجُمَعِ والأعياد والحج، فلا ينبغي للإمام أن يغفل عنه؛ فإن الناس إذا كثروا عظُم الزحام، وجمع المجمَعُ أَخْيافاً؛ وأَلَّفَ أصنافاً ـ خيف في مزدحم القوم أمورٌ محذورة ويكلف من يقوم بالحراسة وإمامة الحجيج.
ثانياً: ما لا يتعلق باجتماع، كالأذان وعَقْد الجماعات في ما عدا الجمعة من الصلوات، فإن عطل أهلُ ناحية الأذان والجماعات، تعرض لهم الإمام، وحملهم على إقامة الشعار، فإن أبوا ففي العلماء من يُسَوِّغ للسلطان أن يحملهم عليه بالسيف، ومنهم من لم يجوّز ذلك. والمسألة مجتهدٌ فيها، وتفصيلها موكول إلى الفقهاء. فأما ما لم يكن شعاراً ظاهراً من العبادات البدنية، فلا يظهر تطرقُ الإمام إليه إلا أن تُرفع إليه واقعةٌ فيرى فيها رأيَه. مثل أن يُنهيَ إليه أن شخصاً ترك صلاة متعمداً من غير عذر، وامتنع عن قضائها. فقد نرى قتله على رأي الشافعي رضي الله عنه، وتعذيبه وحبسه على رأي الآخرين.
نظر الإمام في الأمور المتعلقة بالدنيا:
الأموال التي تمتد يد الإمام:
أولاً: ما يتعين مصارفه: كالزكاة، وأربعةُ أخماس الفيء، وأربعة أخماس خمس الفيء، وأربعة أخماس الغنيمة، وأربعة أخماس خُمس الغنيمة.
ثانياً: ما لا تتعين مصارفه: كخُمس خمسِ الفيء، وخُمس خمسِ الغنيمة؛ وينضم إليها تركةُ من مات من المسلمين، ولم يخلف وارثاً خاصًّا، وكذلك الأموال الضائعة التي أُيس من معرفة مالكيها كما سنذكرها.
نظر الإمام في أمور الدنيا:
طلب ما لم يحصل:
فأما الجهاد فيتعلق به أمر كُلِّيٌّ، فإن الله ابتعث محمداً  إلى الثقلين، وحتم على المستقلين بأعباء شريعته دعوتين: إحداهما: الدعوة المقرونة بالأدلة والبراهين، والمقصدُ منها إزالة الشبهات، وإيضاح البينات والدعاءِ إلى الحق بأوضح الدلالات. والأخرى: الدعوةُ القهريَّة المؤيدةُ بالسيف المسلول على المارقين الذين أبَوا واستكبروا بعد وضوح الحق المبين. فأما البراهين فقد ظهرت ولاحت ومُهدت، والكفار بعد شيوعها في رتب المعاندين؛ فيجب وضع السيف فيهم، حتى لا يبقى عليها إلا مسلم أو مسالم.
قال بعضهم: الجهاد من فروض الأعيان في حق الإمام لأنه بإمامته صار نائباً عن المسلمين أجمعين فكأن شخص المسلمين اجتمعت في شخصه، ومن فروض الكفايات للرعية؛ ثم قالوا: يجب أن ينتهض إلى كل صوب من أصواب بلاد الكفر في الأقطار عند الاقتدار عسكرٌ جرّار في السنة مرة واحدة، وزعموا أن الفرض يسقط بذلك. (والصحيح أنهم جروا على العادة والعرف من صعوبة أكثر من ذلك، لكن إن كثر الجنود والقوة وجب الاستدامة)
وهذا عندي ذُهولٌ عن التحصيل؛ فيجب إدامةُ الدعوة القهرية فيهم على حسب الإمكان، ولا يتخصص ذلك بأمَدٍ معلوم بالزمان، فإن اتفق جهادٌ في جهةٍ، ثم صادف الإمام من أهل تلك الناحية غِرَّةً واستمكن من فُرصة، وتيسر إنهاضُ عسكرٍ إليهم، تعين على الإمام أن يفعل ذلك.
ولو استشعر من رجال المسلمين ضعفاً، ورأى أن يهادن الكفارَ عشرَ سنين، ساغَ ذلك ؛ فالمتبع في ذلك الإمكان، لا الزمان.
يجب الإحاطة أن معظمَ فروض الكفاية مما لا يتخصص بإقامتها الأئمة، بل يجب على كافة أهل الإمكان أن لا يغفلوه ولا يغفلوا عنه، كتجهيز الموتى ودفنهم، والصلاة عليهم، فإن بلغ الإمام أن قوماً في قطر يعطلون فرضاً من فروض الكفايات زجرهم وحملهم على القيام به.
طلب ما لم يحصل:
سد الثغور: اعتناء الإمام بسد الثغور من أهم الأمور، وذلك بتحصين الحصون والقلاع ويستظهر لها بذخائر الأطعمة، ومستنقعات المياه، واحتفارِ الخنادق، وضروب الوثائق وإعداد الأسلحة والعتاد، وآلات الصدّ والدفع، ويُرَتِّب في كل ثغر من الرجال ما يليق به. ولا ينبغي أن يكثروا فيجوعوا، أو يقلوا فيضيعوا. والمعتبر في كل ثغر أن يكون بحيث لو أمه جيش، لاستقل أهلُه بالدفاع إلى أن يبلغ خبرُهم الإمام، أو من يليه من أمراء الإسلام. وإن رأى أن يرتب في ناحيةٍ جُنداً ضخماً يستقلون بالدفع، ويشنون الغاراتِ، فيقدّم من ذلك ما يراه الأصوبَ والأصلحَ.
اجتثاث اللصوص: ليُوَكِّل الإمام بذلك قوماً فليس للصوص وقطاع الطرق مثل أن يبادَروا قبل أن يتجمعوا وتتحد كلمتهم. ثم يندُب لكل صُقع من ذوي البأس من يستقل بكفاية هذا المهمّ. وإذا نجح في ذلك فيكلأهم بعين ساهرة، وبطشةٍ قاهرة.
فصل الخصومات: فليرتب الإمام لها القضاة.
عقوبات الجماعات:
أهل البغي: فيطالبون بتقديم العذر أولا وبما ينقمون، وإسعافِهم بمناهم إن دَعَوْا إلى حق، وادّعَوْا على صدق وإبانةِ حيدهم عن سَنَن الصواب، إن عَرَتهم شائبةُ الارتياب. فإن أبوا آذنهم بحرب.
الممتنعون: كل من امتنع عن الاستسلام للإمام والإذعان لجريان الأحكام، فإن لم يكن مع الامتناع منعة وشوكة، اقتُهِر على الطاعة وموافقة الجماعة. وإن استظهر الممتنعون بشوكة دُعوا إلى الطاعة، فإن عادوا فذاك؛ وإلا صَدَمهم الإمام بشوكة تفض صَدْمَتهم، وتَفُل غَرْبَهم ومنعتَهم.
أهل البدع: إذا كثروا، فيدعوهم الإمام إلى الحق فإن أبَوْا زجرهم، ونهاهم عن إظهار البدع. فإن أصروا سطا بهم عند امتناعهم عن قبول الطاعة، وقاتلهم مقاتلة البغاة، وهذا يطرد في كل جمع يعتزون إلى أهل الإسلام، إذا سلوا أيديهم عن ربقة الطاعة.
وإن ضمنوا للإمام أن لا يظهروا البدع، وعلم الإمام أنهم سيبثون الدعوة سراً، فيحرص الإمام أن يَظْهرَ منهم على خافية، بعد تقديم الإنذار، إليهم ثم يتناهى في تعزير من كان ذلك. فإن جانبوا الائتلافَ، وتجمعوا للخروج عن ربط الطاعة، نَصَب عليهم القتالَ إذا امتنعوا، وإن علم أنهم لكثرتهم، وعِظم شوكتهم لا يطاقون. فالوجه أن يداريَ ويستنفد جهده.
اجتهاد الإمام في المسألة المظنونة: إذا أدى اجتهادَ الإمام إلى حكمٍ في مسألة مظنونة، فيتحتم عليهم متابعةُ الإمام، فإن أَبَوْا قاتلهم الإمام، كما قاتل الصديق مانعي الزكاة في القصة المعروفة، ثم قتالُه إياهم لا يعتمد ظناً، بل القتال على أمرٍ مقطوع به، وهو تحريم مخالفة الإمام في الأمر الذي دعا إليه، وإن كان أصله مظنونا، ولو لم يتعين اتباع الإمام في مسائل التحري لما تأَتى فصل الخصومات في المجتهدَات.
عقوبات آحاد الناس:
الحدود: وهي مفوضة للإمام أو نائبه، وكذا القصاص فلا يجوز استيفاؤه دون الرجوع للإمام.
التعزيرات: منها ما يكون حقاً للآدمي يسقط بإسقاطه، ويُستوفى بطلبه، ومنها ما يثبتُ حقا لله تعالى لارتباطه بسبب هو حق الله تعالى ويمكن العفو فيه لا تمنياً ولكن عملاً بالأولى والأصلح، وفي مبلغ التعزيرات خلاف، فمنهم من قال لا تبلغ الحدود ومنهم من يرى الزيادة كمالك.
رأي غبي! ذهب بعض الجهلة غباءً أن التخفيف في أول الإسلام، كان سببها قرب العهد بصفوة الإسلام، وكان يكفي في ردعهم التنبيهُ اليسير، والمقدارُ القريب من التعزير، وأما الآن فقد قست القلوب، فلو وقع الاقتصار على ما كان من العقوبات، لما استمرت السياسات. ولو جاز ذلك لساغ رجمُ من ليس محصناً إذا زنا في زمننا هذا لما تخيله هذا القائل، ولجاز القتلُ بالتهم في الأمور الخطيرة، ولساغ إهلاك من يخاف غائلته في بيضة الإسلام إذا ظهرت المخائل والعلامات، وبدت الدِّلالات، ولجاز الازدياد على مبالغ الزكوات عند ظهور الحاجات، وأما الاستدلال بزيادة حد الخمر عن أربعين، فذلك لأنها لم تكن محددة من الأساس. ويرى الجويني أن الحل الأنسب طول الحبس.
داعي الضلالة: إن نبغ في الناس داعٍ في الضلالة، وغلب على الظن أنه لا ينكف عن دعوته ونشر غائلته، فالوجه أن يمنعه وينهاه ويتوعَّدَه، فلعله ينزجر وعساه، ثم يكلُ به موثوقاً به حيث لا يشعر به ولا يراه، فإن عاد إلى ما عنه نهاه، بالغ في تعزيره، وراعى حدَّ الشرع، وتحرَّاه، ثم يُثَني عليه الوعيدَ والتهديدَ، ويبالغ في مراقبته من حيث لا يشعر، ويرشح مجهولين يجلسون إليه على هيئات متفاوتات، ويعتزُون إلى مذهبه، ويسترشدونه، ويتدرجون إلى التعلم والتلقِّي منه. فإن أبدى شيئاً أَطْلَعوا السلطان عليه؛ فيسارع إلى تأديبه والتنكيل به، وإذا تكرر عليه ذلك، أوشك أن يمتنع ويرتدع. فإن انكفَّ فهو الغرض؛ وإن تمادى في دعواته أعاد عليه السلطانُ تنكيلَه وعقوباتِه فتبلُغ العقوبات مبالغ تُربى على الحدود، وإنما يتسببُ إلى تكثير العقوبات بأن يبادرَه بالتأديب مهما عاد، وإذا تخلَّلَت العقوباتُ في أثناء موجِباتها تعددت وتجددت، فلا يبرأ جِلدُه عن تعزير وجلدات نكال، حتى تحل به عقوبة أُخرى.
موضع التهم: من آداب الدين أن لا يقف الإنسان في مواقف التهم، فالوجهُ أن يَنْهى الإمام من يتصدى لها عن ذلك على جَزْمٍ وبتٍّ، فإن عاد عاقبه على مخالفته أمرَ سلطانه، واستجرائه على والي زمانه.
توبة الزنديق: ذهبت طوائف أنه لا تُقبل توبتُه بعدما ظهرت زندقتُه لأن الذي أبداه من توبته عين مذهبه في زندقته، ويرى الجويني قبول توبته كالكافر ينطق الشهادتين في المعركة فيكف عنه ولو قالها تقية، وكذا فقد دارى النبي  المنافقين، والصحيح هو معاملته كداعي البدعة بالحبس ونحوه.
القيام على المشرفين على الضَّياع:
الولايات: فأما الولاية، فالسلطان وليُّ من لا ولي له من الأَطفال والمجانين. وهي تنقسم إلى ولاية الإنكاح وحفظ الأموال.
وسد الحاجات: وهي من أهم المهمات، ويتعلق بهذا ضربٌ من الكلام الكلي، وقد لا يُلْفى مجموعا في الفقه. فإذا وُفِّق الموسرون لأداءِ الزكوات، سدت الحاجات، وإن قُدِّرت آفةٌ وأَزْمٌ وقحط وجدب، وغلاء في الأسعار بحيث لا تكفي الزكاة فالوجه استحثاثُ الخلق بالموعظة. فإن وجد فقراءُ محتاجون لم تف الزكوات بحاجاتهم، فحقٌّ على الإمام أن يجعل الاعتناءَ بهم من أهمِّ أمرٍ في باله. فإن لم يبلغهم نظرُ الإمام وجب على ذوي اليسار البدارُ إلى رفع الضرار عنهم، وإن ضاع فقير بين ظهراني موسِرين باؤا بأعظم المآثم. ولكن لو بُلِي أهل بلدة بقحط، وعلم أنهم لو فرَّقوا ما معهم، لافتقروا افتقارهم، فلا نكلّفهم أن يُنهوا أنفسَهم إلى الضرار الناجز.
مسألتان:
الأولى: لو أن رجلين مسافرين، وبلغ أحدهما المخمصة ومع الثاني ما يبلغه العمران، فيتعين عليه أن يسد رمق رفيقه، ويكتفي ببلاغٍ يكفيه في طريقه. وأما لو كان الرفيقان في متاهات لا يدريان متى ينتهي بهما إلى العمران، فلا نكلف من معه زاد واستعداد أن يؤثر على نفسه، ويجتزئ بحاجة يومه أو وقته.
الثانية: إذا ظهر الضرر والجوع فيبقي الموسرون قوت سنة اقتداء بكون النبي  يدخر لزوجاته قوت سنة ولأنه يقرب تفرج الأمر في سنة عقلاً، ثم يصرفون الباقي إلى ذوي الضرورات.
الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يثبتُ لكافة المسلمين، برفق وعلم، ومن طبق ذلك فإنه يوشك أن يستجيب له الناس، فإن لم يطيعوا فليس له القوة ولكن لولاة الأمور.
تقويم المكاييل والموازين: يتعلق بالوالي أن يكلفَ المتهمَ بالتطفيف عرضَ ميزانه ومكياله، ولا يثبت ذلك لمن ليس مأموراً من جهة السلطان.
نجدة الإمام وعدته:
يحتاج الإمام في منصبه إلى الاعتضاد بالعَدَد والعتاد، فإنه متصدٍّ لحراسة البيضة، وحفظِ الحريم، والتشوف إلى بلاد الكفار، ولا يجوز أن يكون معولُّه المتطوعةَ الذين لا يتنشَّأون إذا نُدِبوا مبادرين؛ حتى يتأهبوا، ويستعدُّوا ويتألَّبوا، ولن تقوم الممالك إلا بجنود مجنَّدة، كما دون عمر الدواوين وجند الجند.
الأموال:
فمن الأموال المختصة بالمصارف الزكواتُ، وهي مصروفةٌ إلى الأصناف الموصوفين في كتاب الله، وسنن رسول الله  بأوصاف. ومنها أربعة أخماس الفيء. ويدخل تحته الجزية، والأخرجة عند من يراها من العلماء، وأموال المرتدين، وما ينجلي عنه الكفار من غير قتال، فأربعة أخماس ما وصفناه تختص في ظاهر المذهب بالمرتزقة والجند المترتبين في الإسلام
وأما المال العام فهو مال المصالح، وهو خُمُس خُمسِ الفيء، وخُمس خمس الغنيمة، وما يخلفُه مسلم ليس له وارث خاص، ويلتحق بالمُرْصَد للمصالح مالٌ ضائع للمسلمين قد تحقق اليأس من معرفة مالكه ومستحقِّه.
ثلاث مسائل:
المسألة الأولى: ضابط جمل المصاريف وكليتها: من يرعاه الإمام بما في يده من المال ثلاثةُ أصناف:
صنف منهم محتاجون، والإمام يبغي سدَّ حاجاتهم، وهؤلاء معظم مستحقي الزكوات وخمس الفيء.
صنف ينبغي للإمام كفايتُهم، وهؤلاء صنفان: أحدهما: الجنود، وهم نجدةُ المسلمين وعُدَّتُهم، فينبغي أن يصرف إليهم ليسدّ حاجتَهم، ويستغنوا به عن وجوه المكاسب وهذا من أربعة أخماس الفيء، و الثاني الذين انتصبوا لإقامة أركان الدين، فعلى الإمام أن يكفيهم مُؤَنَهم وهؤلاءِ هم: القضاةُ والحكامُ، والقسَّامُ والمفتون والمتفقهون، وكل من يقومُ بقاعدةٍ من قواعد الدين، يُلهيه قيامُه عمّا فيه سدادُه وقوامُه. و يُدِرُّ عليهم كفايتَهم وأرزاقَهم من سهم المصالح.
وصنف يصرف إليهم طائفة من مال بيت المال ولا يتوقف استحقاقهم على سدّ حاجة، ولا استيفاء كفاية، وهم بنو هاشم، وبنوا المطلب المسمَّوْن في كتاب الله ذا القربى، فهؤلاء يستحقون سهماً من خمس الفيء والغنيمة.
المسألة الثانية: نزف الأموال وادخارها:
الرأي الأول: نزف الأموال: ذهبت طوائفُ إلى أن الإمام إذا أوصل كل ذي حق في بيت المال حقه، ففضل في بيت المال مالٌ، فيتعين تفريقه، فأما الجنود بعد إعطائهم نصيبهم المشار له، فيجب فضّ الفاضل عليهم على أقدار أعطيتِهم وأقساطِهم. وأما الزكوات، فإن أعطي المستحقون وزالت أسباب الاستحقاق فتنقل الأموال إلى مستحقي الزكاة في ناحية أخرى فإن لم يكن ثم فتصرف في سهم المصالح، ولا يتصور انقطاع مصارف المال المرصود للمصالح ويبدأ بالأهم فالأهم، فإن نفد ما في بيت المال فأهم المصالح كفاية الجنود، وإن لم تف الزكاة بحاجات المحاويج سد الإمام حاجتهم من مال المصالح. و فاضلُ مال المصالح يبني به الرِّباطاتُ والقناطرُ والمساجدُ وغيرُها من جهات الخير. ويستدلون بفعل الخلفاء الراشدين.
رأي الجويني: الادخار حتمٌ على الإمام، وذلك لأنه يصعب الجهاد دون وجود رجال مجهزين احتياطياً، فكذلك الأموال لا بد أن تكون مرصودة محفوظة، وكيف تصرف في بناء القناطر ويترك الجند؟ وأما القول بأنه لو نفد ما بيت المال فيأخذ من الموارد التي يأخذ منها لو نفد البيت المال، فإن هذا رأي ضعيف، وأما فعل الخلفاء الراشدين فما كانت الأموال كثيرة تحتمل الادخار، في عهد أبي بكر، كما أن ما كان يجنى منها إلى الجند فلا يبقى إلا القليل في عهد عمر، وأما في عهد عثمان فلا نظن أن المال كان يوزع بل كان يدخر.
المسألة الثالثة: ما الحكم إذا صفرت يد راعي الرعية؟
إن ارتقب الإمام حصولَ أموال في الاستقبال، ضاع رجالُ القتال؛ وإن استرسل في مدّ اليد إلى ما يصادفُه من مال، من غير ضبط أفضى إلى الانحلال، والخروج عن قضايا الشرع في الأقوال والأفعال.
الرأي الأصوب: إذا خلا بيتُ المال انقسمت الأحوال إلى ثلاث:
أحدها: أن يطأَ الكفارُ ـ والعياذ بالله ـ ديارَ الإسلام: اتفق حملة الشريعة قاطبةً على أنه يتعينُ على المسلمين أن يخِفُّوا ويطيروا إلى مُدَافَعَتِهم زرافاتٍ ووحدانا فلا نهتم بالأموال ويجب على الأغنياء بذلها.
ثانيها: ألا يطأ الكفار ديار الإسلام ولكن يخشى من ذلك للانقطاع المادي: ويلحق بالقسم الأول حكماً.
ثالثها: ألا يخاف هجومهم لا عموماً ولا خصوصاً: فهل يجب على الأغنياء البذل؟ فيه خلاف، ورأي الجويني أن الإمام يكلف الأغنياء بدفع فضلات أموالهم لأن إقامة الجهاد فرض ولاحتمال غزو الكفار لنا إن تقاعسنا.
ما القول إن كان مع الجند ما يكفي ولكن خلا بيت المال أو كاد، وخاف الإمام غائلة بسبب خلو بيت المال؟ قال: لا بد من ادخار الأموال كما الرجال كما ذكر، كما أنه إن توقف الجنود عن الغزو يعني توقف نماء مصدر دخل بيت المال فلا بد من الجهاد لتنميته، وإن استمر الجهاد استمر الدخل بإذن الله فلا حاجة لأخذ أموال الناس.
كيف تؤخذ الأموال من الأغنياء؟ للناس حالتان:
إحداهما: أن يعدِموا إماما يجمع شتات الرأي، فيأثم الجميع لو عطلوا واجباً واحداً.
ثانيهما: إذا وليهم إمام مطاع، فإنه يجب طاعته فيما أمر به طائفة منهم.
قياس ذلك: فنقول: لو شغرت الأيام عن إمام ومست الحاجة في إقامة الجهاد إلى مال وعتاد، كان وجوب بذله فرض كفاية. وإن كان لهم إمام فإنه يطلب من بعض الموسرين بذل ما يحتاج إليه وإلا غلب الكفار وكانت أقل فائت هي أموال الأغنياء.
طريقة أخذ الأموال: لْيُشِرْ على أغنياء كل صُقع بأن يبذلوا من المال ما يقع به الاستقلال، ويرتب ذلك حسب الأصلح فيمكن أن يخصص أقواماً فقط ويجبرهم على الدفع أو يعين أقواماً على التنصيص كمن كثر ماله وقل عياله، أو من يطغى عند كثرة ماله، .
ما طبيعة ما يأخذه الإمام؟
الأول: إنها قرض يتعين رده، وذلك لأن النبي  كان يستقرض من الأغنياء، وربما عجل الزكاة، فلو كان يسوغ الأخذ دون اقتراض لفعله النبي ، وكذا حتى لا يتوسع الأئمة في أخذ ما في أيدي الناس.
الثاني: إن عمم على الجميع وأخذ منهم فليس قرضاً، وإن خص أقواماً فهو قرض.
الثالث: يرى الجويني أنه ليس قرضاً بل يأخذ ما تدعو له الحاجة لأنه لو لم يكن هناك إمام لكان الناس مطالبين بدفع هذه الأموال للجهاد كواجب وليست كقرض، كما أنه لو كان قرضاً فسوف يؤدي لهم القرض عند وجود فائض وربما احتاج لهذا الفائض لاحقاً فيأخذ منهم مرة أخرى وهكذا بشكل تسلسلي وهذا لا يصح. وليس معنى كلامه أن يمنع من كونه استقراضاً تطييباً للنفوس.
رد الجويني على أصحاب القولين:
وأما القول بأنه لا يلزم مالك الطعام إعطاء المضطر في المخمصة من غير بدل فكذلك هنا، فيقال إنه صحيح لو كان للمضطر مال حاضر أو غائب، أما إن لم يكن له مال فيجب إعطاؤه دون بدل.
أن النبي  كان يستقرض كما كان كذلك يدعو الأغنياء لبذل فائض أموالهم وكانوا يستجيبون.
أن القول بأن ذلك يجرئ الأئمة على الأموال، فإننا لم نقل بأنهم يأخذونه الأموال في أي وقت بل في حالة نفاد الأموال واحتمال هجوم الكفار.
إذا كثرت عساكر الإسلام، ولم تف موارد بيت المال بمؤنتهم وعدّتهم، فما الحكم؟
رأي الجويني (التوظيف على الأموال: الضرائب): لا بد من توظيف أموال على الغلات والثمرات وضروب الزوائد والفوائد من الجهات، فإن استغنى بيت المال غض الطرف عن التوظيف لعدم الحاجة إليه، و سبب القول بالتوظيف لأنه لو عُدِم والٍ لاحتاج الناس إلى حراسة بيوتهم وأموالهم أضعاف ما يبذلونه في التوظيف على الأموال.
ولا يجوز أن يأخذ من أموال الناس للتكاثر والترفيه وغيرها، كما لا يجوز أن يأخذ عقوبة للناس لاستصلاحهم. لكن لا يمنع أن يركز عليه الإمام ويأخذ منه عند الحاجة فيردعهم ذلك.
فإن قيل إن هذا لم يكن في عهد الخلفاء الراشدين. فيقال: إن عمر رضي الله عنه وظف على الخراج وأراضي العراق، والخلاف في كيفية ذلك لا في أصله.
مستخلفي الإمام:
الاستخلاف قسمان: خاص وعام.
الأمرُ الخاص:
جباية الصدقات ونحوها: فمن ولاه الإمام صنفا من هذه الأصناف، فينبغي أن يكون المُوَلَّى مستجمعاً خصلتين: الصيانة والديانة، والشهامة، ولا يشترط أن يكون مجتهداً أو مفتياً ولكن يرسم له الإمام مقادير الزكوات والأنصباء.
الجهاد: فليجتمع فيمن يقلَّدُ الأمرَ الثقةُ، والصرامةُ، والشهامةُ؛ وليكن ممن حنكته التجارب، وهذَّبَتْه المذاهب ولا يبطؤه عن الفُرص إذا أمكنت خورٌ، يطرِقُ للخُدع، عارفا بغوائل القتال محبَّباً في الجند؛ لا يُمْقَت لفرط فظاظة، مهيباً لا يُراَجَع في الدَّنِيات من غير حاجة، ثم الإمام يقدّمُ له مراسمَ في المغانم والأسرى، يتخذها وزراً وذكرى.
الأمر العام:
كالقضاء والجلوسِ لفصل الحكومات بين الخصماءِ، وقد يرتبط به أمورُ الأموالِ والأبضاعِ والدماءِ، ويشترط فيمن يتولاه الدين، والثقةُ، والأمانة والعقل الراجح، والرأي الصائب، والحريةُ والسمعُ والبصرُ، والاجتهاد على خلاف في بعضها.
ويرى الجويني القطع باشتراط الاجتهاد وذلك أن القاضي إذا كان مجتهداً، فلا شك أنه يستتبع المتحاكمين إلى مجلسه، ولا يتبعهم، فإن تكليفَه اتباعَ المخالفين على تباعد المذاهب يجرُّ تناقضاً لا سبيل إلى الوفاء به، ومنصبُ الولاية يقتضي أن يكون الوالي متبوعاً لا محالة، فلئن استتبعَ الوالي البالغُ مبلغ المجتهدين ـ المقلدين، فليس ذلك بدعا، فإنه أَبَرَّ عليهم بمنصب الولاية، ثم بالإمامة في الدين، فان استتبع مجتهداً، فالسبب فيه أنه وإن ساواه في الاجتهاد، فقد أربى عليه بالولاية، وهي تقتضي الاستيلاءَ والاستعلاءَ والاحتواءَ، على تفنُّن الآراء، وإن قلد إمام عصره فإنه يحمل المجتهدين على فتوى من يقلده وهذا باطل.
القول في خلو الزمان عن الإمام: الباب الأول: في انخرام الصفات المعتبرة في الأئمة:
النسب:
إن لم يكن هناك قرشي نصَبْنا من وجدناه عالماً كافياً ورعاً.
لو نصبنا من ليس قرشياً؛ ثم نشأَ في الزمان قرشي على الشرائط المطلوبة، فإن عَسُرَ خلعُ من ليس نسيبا أقررناه، وإن لم يتعذر خلعُه، فالوجه عندي تسليمُ الأمر إلى القرشي.
الاجتهاد، العدالة:
لو لم نجد مجتهداً، ولكن صادفنا شهما ذا نجدة وكفاية واستقلال بعظائم الأمور، على ما تقدم وصفُ الكفاية، فيتعينُ نصبه في أمور الدين والدنيا.
إن لم نجد كافيا ورعا، ووجدنا ذا كفايةٍ فاسقاً، فإن كان في انهماكه وانتهاكه الحرمات، واجترائه على المنكرات، بحيث لا يؤمن غائلتُه وعاديتُه، فلا سبيلَ إلى نصبِه، فإنه لو استظهر بالعتاد وتقوَّى بالاستعداد، لزاد ضَيْرُه على خَيْرِه، وهذا نقيضُ الغرض المقصود بنصب الأئمة، ولكن لو غُزي المسلمون وعسر قيادتهم للجهاد تحت عدل فإنهم يقادون تحت الفاسق.
لو فرض فاسقٌ يشرب الخمر، وكنا نراه حريصًا، على الذَّبِّ عن حوزة الإسلام، وكان ذا كفاية، ولم نجد غيرَه، فالظاهر نصبُه مع القيام بتقويم أَوَدِه على أقصى الإمكان.
فإن قيل: ما قولكم في قرشيّ ليس بذي دراية، ولا بذي كفاية إذا عاصره عالمٌ كافٍ تقيٌّ، فمن أولى بالأمر منهما؟ قلنا: لا نقدم إلاَّ الكافيَ التقيَّ العالمَ، ومن لا كفاية فيه، فلا احتفالَ به، ولا اعتدادَ بمكانه أصلاً.
فإن قيل: إذا اجتمع في عصرٍ ودهرٍ قرشيٌّ عالم ليس بذي كفاية واستقلال، وكاف شهمٌ مستقلٌّ بالأمر، فمن نُقدّمُ منهما؟ قلنا: إن لم يكن القرشيُّ ذا خُرقٍ وحُمق، وكان بحيث لو نُبِّهَ لمراشد الأمورِ لفهمها وأحاط بها، وعلمها، ثم انتهض لها ـ فهو أولى بالإمامة.
الباب الثاني: القولُ في ظهور مُسْتَعْدٍ بالشَّوْكة مُسْتَوْلٍ:
مقصود هذا الباب تفصيلُ القول فيمن يستبدُّ بالاستيلاءِ والاستعلاءِ من غير نصبٍ ممن يصح نصبُه، والحالة أقسام:
مستكمل الشرائط
غير مستكمل لكنه كفؤ
غير صالح ولا كفؤ
خلو الزمان من أهل الحل والعقد
وجود من يصلح من أهل الحل والعقد
وجود شخص مستجمع لشرائط الإمامة
عدم وجود شخص مستجمع لها
هو إمام حق وفي حكم العاقد والمعقود له لأنه لا وجه لتعطيل الإمامة والكفء موجود
إذا امتنع أهل الحل والعقد عن اختيار فيكون هو الإمام
إذا لم يمتنعوا، ففي توقف ثبوت الإمامة على العقد خلاف ورجح الجويني عدم الحاجة لذلك لأن الهدف هو قطع الشجار فإذا وجد من يتولى كفى، ويجب طاعته واتباعه، فإن أطاعته طائفة يقوى بهم ثبتت إمامته، وإن لم يطعه أحد أو اتبعه ضعفاء لا تقوم بهم شوكة، فيمكن القول إنه ليس إماماً لأنه كأسير، ويمكن القول إنه إمام وإن لم يطيعوه، ويجب أن يدعو إلى نفسه فإن لم يعدم من يطيعه وآثر الجلوس فهو آثم ولم يكن إماماً.
يعين إماماً والتفصيل فيه كتفصيل الحالة الأولى.
يكون إماماً ببيعة أهل الحل والعقد. وإن استولى بنفسه بالقوة فالكلام فيه كالتفصيل في حالة مستكمل الشرائط
مسائل:
لو توفرت الشروط في أكثر من واحد فاستبد بالإمامة أحدهم فلا يخلو: إن تأخروا في تنصيب أحد فتقدم هذا لرأب الصدع وقطع النزاع فهو إمام إن استظهر بالعدة ولا بد من عقد لأنه ليس لوحده، وقال البعض إن ن عسرت مدافعته فيكون إماماً دون عقد ورجح الجويني الأول.
لا يجوز عقد الإمامة لفاسق وإن كانت ثورته لحاجة ثم زالت فاستمسك بعدته محاولاً حمل الناس على بيعته ولا يجوز أن يبايع إلا إن كان ثار لحاجة وتجمع الناس حوله ولم يستطع فكاكاً منهم وكانت الفتن أقرب فيكون إماماً ولكن لا بد من البيعة.
مقاصد ذلك:
أحدها: أن القائم بهذا الأمر كالآمر بالمعروف والناهي عن المنكر وهو واجب و أن من رأى مظلوماً وجبت نصرته إن علم ذلك، فمن باب أولى الإمامة التي فيها الدفاع عن أعراض الناس وأموالهم كافة.
أن الهدف من الاختيار في الإمامة قطع الشجار، فإذا لم يكن هناك مستجمع للشروط فلا يجوز وقام شخص بالدعوة لنفسه وكان معه عدة فلا وجه لتعطيل الممالك والرعبة لأجل ذلك.
استشكال وجوابه:
إن قيل: إنما كان يستقيمُ ما ذكرتموه لو كانت الأمورُ جاريةً على سنَن السَّداد لكن الفساد موجود والتسلط موجود، فيجاب عنه: الأول: أن الأمر على خلاف كلام السائل فإن الطاعة موجودة، وأما التعدي من الجند فلم يخل منه زمان.
حكم تخلي الإمام عن منصبه:
هل يجوز تخلي الإمام عن منصبه؟
لا يحل له ذلك إذا علم أنَّه لا يخلفُه من يَسُدُّ في أمر الدين والدنيا مَسَدَّه وذلك لأن فروض الكفايات يجب أن يتولاها من تقوم الحاجة به، فكما أن من جاهد لا يجوز له تولي الأدبار بعد التقاء الصفين لئلا يؤثر على الجند وينحل العقد فكيف بالإمام؟
حكم خروج "نظام الملك" للحج:
إن كان ما صمَّمَ عليه من الحج مُتَضَمِّناً قطعَ نظرِه عن الخليقة، فهو محرَّمٌ. وقد أجمعَ المسلمون قاطبةً على أن من غَلَب على الظَّن إفضاءُ خروجِه إلى الحجِّ إلى تعرُّضه أو تعرُّضِ طوائفَ من المسلمين للغَرَرِ والخطر، لم يجز له أن يغرِّرَ بنفسِه وبذويه، ومن يتصل به ويليه، بل يتعينُ عليه تأخيرُ ما ينتحيه، إلى أن يتحقَّقَ تمامُ الاستمكان فيه وهذا في آحادِ الناس ومن يختصُّ أمرُه به، وبأَخصِّه فكيف بالإمام؟
متى يجوز لنظام الملك الحج؟
إذا أمن الطرقات وقطع المخاطر جاز له.
واجبات الإمام:
فائدة: ينفذُ من قضاءِ قاضي البغاة ما ينفذُ من قضاءِ قضاة الإمام القائمِ بأمور الإسلام وإلا لتعطَّلت أمورُ المسلمين، وبطلت قواعدُ من الدين.
وأما الواجبات فهي كالتالي:
الإحاطة بأخبار البلاد: لأن النظر في أمور الرعية مترتب عليه وذلك لأن عدم الاطلاع يفضي إلى امتداد يد الظلمة ويكثر الفساد والغش والخيانة والغلول. والحل في ذلك إيجاد زمرة من الثقات ليبلغوه بالأخبار سيئها وسارها وفق توجيهه فيخاف أهل الفساد وينضبطون.
وجوب مراجعة العلماء: فيما يأتي ويذر فهم ورثة الأنبياء، فإن كان الإمام مجتهداً فيمضي على اجتهاده ويتبعه الرعية. وإن لم يكن مجتهداً فيتبع العلماء.
التيقظ للفتنة: وخصوصاً الفتنة في الدين وما يصدر عن الزنادقة والمعطلة.
تترك باقي الواجبات لنظر الملك فما قدر عليه فهو الواجب، وما لم يستطع فلا يكلف الله نفساً إلا وسعها و "كلكم راعٍ" ولو مات على شط الفرات أو جيجون فإن الإمام هو المسؤول.
الباب الثالث: في شغور الدَّهر عن والٍ بنفسه أو متوَلٍّ بغيره:
يصعب تصور شغور الزمان عن الكفاة ومن يستحق الإمامة وذلك لأنه لا يخلو زمان من عارف بالسياسة، ولكن نفترض أن من توفرت فيه هذه الصفات مضطهد مهضوم. فكيف العمل؟
الحل: ما يسوغ استقلال الناس فيه بأنفسهم، ولكن الأدب يقتضي مراجعة ولاة الأمر، فإن الناس يتولونه عند خلو الدهر كعقد الجمع واستيفاء القصاص والجهاد والقضاء على قطاع الطرق والمفسدين حيث ينهى الناس عن شهر السلاح في أوقات السلطان، فإذا خلا الزمان عن سلطان وجب العمل على تفادي السوء ولو بالسلاح.
قال بعض العلماء، لو خلا الزمان من سلطان فواجب على سكان كل بلدة أن يقدموا حكماءهم ليلتزموا أمرهم ونهيهم.
يعتنى بأمور الولايات كتزويج الأيامى والقيام بأموال الأيتام. وأما تزويج المرأة لنفسها فمحرم على رأي طائفة من العلماء، فإن لم يكن لها ولي، وشغر الزمان عن سلطان، فيتولى أمور المناكح أحد العلماء، وذلك لأن حكم المحكم حتى في حال قيام الإمام نافذ على الصحيح، وإن عرى الزمان عن عالم فيذكر ذلك تفصيلاً في الركن الثالث من الكتاب.
كل أمر يتعاطاه الإمام في الأموال فهو مفوض إلى العلماء في حالة خلو الزمان عن إمام، فإن تعسر جمع الناس على عالم واحد، فتستقل كل ناحية بعالم، وإن كثر العلماء فالمتبع أعلمهم، فإن استووا اتفقوا على تقديم واحد منهم، فإن تنازعوا فقرعة.
فإن قيل: هلاّ جزمتَ القولَ بأن عالِم الزمان هو الوالي، وحقٌّ على ذي النجدة والباس اتباعُه، والإذعانُ لحكمه، والإقرانُ لمنصب عِلمِه؟ قلنا: إن كان العالمُ ذا كفاية فحق على ذي الكفاية العريِّ عن رتبة الاجتهاد أن يتبعَه إن تمكن منه. وإن لم يكن العالم ذا درايةٍ واستقلال بعظائم الأشغال، فذو الكفاية الوالي قطعاً، وعليه المراجعةُ والاستعلام، في مواقع الاستبهام، ومواضع الاستعجام.
1

ليست هناك تعليقات: